الاثنين، 2 نوفمبر 2009
البراد فوق الكعبة!!
الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009
في طفولتي

تعارف

الجمعة، 9 أكتوبر 2009
من مجموعة (الام ظهر حادة) كلبة فاطمة. كيف قررت كلبة فاطمة إلغاء فزع الطابور الصباحي وحصة التسميع ؟!!

فضيلي جماع:تجليات الوجود في:"آلام ظهر حادّة"، للقاص /عبدالغني كرم الله
الثلاثاء، 6 أكتوبر 2009
صديق محيسي : عبد الغني كرم الله :قراءة لنصوص تبحث في عبث الوجود

قبل الحديث عن الثورة التي ستحدثها مجموعة الام ظهر حادةعربيا وافريقيا وربما عالميا الان او لاحقا , يتعين علينا التركيز اولاعلي ما يمكن وصفه بنقطة تحول في السرديات السودانية التي احدثها عبد الغني, فمنذ المرحلة الاميبية للسرديات السودانية في اربعينات وخمسينات القرن الماضي, موت دنيا لمحمد احمد محجوب ومحمد عبد الحليم , والفراغ العريض لملكة الدار, وابراج الحمام لفؤاد احمد عبد العظيم, ذلك الافق الرومانسي الذي اطلت منه وبه الرواية والقصة القصيرة السودانية , فأن التحولات العميقة في مفاهيم الابداع بدأت دائما بعمل فني فيه روح المغامرة لاكتشا ف المناطق المجهولة في افاق الافكار و التخيل والتناول , فعلي صعيد الشعر مثلا كان جيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن ومحمد مفتاح الفيتوري ومحي الدين فارس وعبد الله شابو مكتشفون اوائل لمجاهل شعرية لم يكن في قدرة احد ارتيادها في ذلك الزمان, فهولاء الذين ثأثروا بثقافة الثورة علي المستعمر ونمت في وجدانهم روح اليسار الجديد , والرغبة في تخليص الكلمة من خمولها اللغوي وتوظيفها في خدمة قضية التحرر الوطني كانوا بمنطق تاريخ الحركة الثقافية ذاك واضعي اولي المداميك لمشروع حداثة ظل يتواصل تفاعلا و يتجدد قيمة حتي نهوض الواقعية الاشتراكية التي حملت خصائصها كتابات الاخوين ابراهيم واحمد عبدالحليم ( ايام الطفولة( رواية ) واصرار ( شعر) وكذا عبد الرحمن الشرقاوي في ( الارض ) وفتحي خليل في ( الجبل)وصلاح عبد الصبور, واحمد عبد المعطي حجازي, ومحمد مندور, ومحمود امين العالم , وعبد العظيم انيس في النقد, كان السودان يواجه رياح تغييرشديدة التأثير في نسيجة السياسي والاجتماعي ومن بين ما مسته تلك التحولات الثورية جيل جديد من المبدعين في الرواية والقصة القصيرة والشعر, فكان صلاح احمد ابرا هيم في ( البرجوازية الصغيرة) , والزبيرعلي وخوجلي شكرالله في (النازحان والشتاء)مجموعة قصص قصيرة وحسن الطاهر زروق( حسن وبهية )قصص قصيرة ,ابوبكر خالد بداية الربيع 1958 والنبع المر1960, و الطيب زروق في قصص سودانية 1975و الارض الصفراء قصص قصيرة1970ثم خرج من ذلك المعطف عيسي الحلو, مصطفي مبارك, محمود محمد مدني , وعثمان الحوري وعثمان حامد سليمان , وحسن محمد سعيد , ويوسف خليل وغيرهم من الاسماء, علي ان هذا التحول تجاه الواقعية الاشتراكية رافقته محاولات تجديدية اخري تمثلت في كتابات بشير الطيب وكمال شانتير معتمدين التيارالوجودي كخطاب ابداعي جديد تأثرا بزحف هذه الموجة التي اجتا حت اروربا في حقبتي الستينات السبعينات , البير كامي, وجان بول سارتر, وفرانسوا ساجان ,وسيمون ديبفوار في فرنسا ,والبريطانيان جون اوزبرن , وجاك كرواك اللذان اعلنا الحرب علي نتائج الحضارة الغربية .
تثير قضية الحداثة دائما اسئلة صعبة لاتجد الا اجابات متصادمة متزاحمة لاتفضي في النهاية الي حقيقة واحدة , وليس اعسرعلي القول من ان التجربة الابداعية يمكن استنساخها بمعني ان تحل روح روائي في روائي اخر, ولكن ايسر علي القول ان يتأثر روائي تأثرا كاملا ومعيبا بروائي اخر حتي يصل ذلك التأثرالي درجة وقع الحافرعلي الحافر.
ثمة ما يمكن الاتفاق عليه وهو ان الطيب صالح اخرج الرواية السودانية من حدودها الاقليمية الي افقها العالمي, لكن موسم الهجرة الي الشمال, وعرس الزين , ومريود مع اعتبارها علامات حدودية تفصل بين زمنين في روزنامة الحركة الروائية, الا ان ايقاع التطور يجعل منها تراثا اثريا يفتح الطريق امام مكتشفين جددا بادوات جديدة مثلما نحن اليوم امام مكتشف جديد هو عبد الغني كرم الله , فكرم الله يقع علينا جمعيا عبء الكتابة عنه حتي نقنع العالم علي سماع صوته , ولن ابالغ اذا قلت مرة اخري انه يعد ثورة في عالم الرواية السودانية والعربية والافريقية ايضا , وهذه وجهة نظري التي من المحتم الا يتفق معي فيها اخرون.
تعد رؤية عبد الغني تحولا هاما في عالم الرواية ا لسودانية والعربية والافريقية ايضا كما ليس من باب الشطح في القول اذا اشرنا الي ان رؤية كرم الله للاشياء ( الكائنات ) هي رؤية جديدة تماما لانجد لها شبيها في السرديات السودانية عدا ماذهب اليه بشري الفاضل عندما خلق شخوصا موازية للبشر وهو ماشرت اليه سابقا, فطوال مسيرة هذه السرديات كانت مادة الرواية , او القصة الفصيرة دائما هي الانسان باعتباره العنصر المكون للحياة والمحرك لاحداثها, ولم يرد كائن غير الانسان في معطم الروايات العربية, ثم العالمية , الا في حكايات كليلة ود منة التي اختارت نماذجها من الحيوانات, وهي احاج تبحث في مفاهيم الشر والخير في اسلوب فلسفي رومانسي .
ما يميز كرم الله انه اختار عالما شموليا عندما قررصنع مادته القصصية , وشمولية هذا العالم اقتضت منه كما ذكرنا ممارسة التوحد مع كائناته (مخلوقاته ) الحية والجامدة معا , فهو عبر رؤية فلسفية تقترب من البوذية وتتفوق عليها احيانا, نفخ في جوزي الحذاء روحا , كما فعل ذلك مع الطمي الريح , والشجر, والحصي , ( ثم جاءت رائحة النورس والسمك وبتلات البصل , ورائحة نعال ملقي في الخلاء , ورائحة عرق مالح من صدور عشرات المزارعين والعمال, ورائحة الاسمنت من حائط شاهق , وتجيء بعد ذلك روائح الروث , والسندس, ومصنع النسيج لتركب في سفينة الريح, هذه الصورالتي وردت في قصة( رائحة الطمي ) اكسبها القاص سمة كونها تحس وتفكر وتحلم كجزء من كون زاخر بقيم علوية تأخذ من الطبيعة ذلك المجال الواسع الشاسع صيرورتها كمظهر من مظاهر الحياة وهي في مسيرتها الموغلة في القدم , يماهي كرم الله بين السكون والحركة, وبين الصمت والكلام’ وبين النور والظلام في نسيج شخوصه, ويعطي هذه الشخوص بعدا روحيا بصبغة ربانية بأعتبار ان كل مخلوق هو صناعة علوية له وظيفة في الحياة, كما ان السيرورة التي يسبغها الكاتب علي الاشياء تستمد مادتها من اثر فلسفي يقترب ويبتعد عن الفكر الجمهوري الذي لايزال يتخلل خطابه العلوي, يقترب من هذا الفكر حين يبحث في كنه الانسان ذلك الكائن المركب من الخير والشر, والمتروك لافعاله يطابق بها اقواله, ويبتعد عنه حين يتعامل معه كحامل معرفي لحقيقة الاشياء في حركتها الارضية يتفاعل داخلها الخطأ والصواب , والسالب والموجب , ولاتقود الرؤية البرانية للشيء في ثباته الا الي خديعة معرفية لاتشرح الا مظهرها اذا حاولت نفي الجدل المادي الكامن في جوهر الظواهر الكونية .
( لماذا لا يقلد بني آدم إخوانهم الموتى في قبورهم، بل في قصورهم، أليس هم أحياء، بل في حياة أخصب وأمتع، أكتفوا بوطن صغير، حفرة صغيرة مظلمة كما يتراءى للعميان، عرضها السموات والأرض، استغنوا عن الماء والهواء والعطور، والأهم الأحذية، (ما أكثر الأشياء التي لا يحتاجها الإنسان)، آثروا باطنها الأمن، عن ظاهرها الحزين، الملئ بالحروب والعواصف والشوك، عرجوا إلى دنيا الدواخل، فالروح الإلهي منفوخ في الجسد، فالنائم في غرفة مظلمة وحارة، يحلم بالشمس، وبسهول خضراء، وربيع دائم، كذا القبر، بل أنضر وأجمل، إنها عوالم كثيرة، فلا تجعل من فانوس عقلك الواهن عصاه سير، راقدين كالجذور في خلوة القبر، في جنة القبر،(كفوا عن الرحيل.. كأنهم يقمزون لبني آدم بذلك)، أنهم أعظم قدوة ومثال لبني آدم لو كانوا يعلمون، "فما ليس فيك، فلا تبحث عنه في أي مكان آخر"، أعن هذا يسار إلى الطعان ).
يسيطر خيال الطفل علي رؤية عبد للاشياء , فالطفولة وحدها هي القادرة علي خلق عالم بعيد عن الواقع الارضي, والطفل حين يحدق في السماء يتحول عنده السحاب الي اشكال من الحيوانات , والرؤس المقطوعة لمخلوقات خرافية , ان محاولة الامساك بظل شجرة كما في قصة (الدجاجة اقوي من الاسد ) هو جنوح فائق لخيال طري يريد تحويل المستحيل الي ممكن .
في حمار الواعظ يظهر كرم الله كم هو مدهش ان يتحول الدين الي عادة يمارسها هذا الرجل كانما هو مكلف باعطاء رسالة ناقصة الي الناس البسطاء, فهو يتحدث في خطب الجمعة حاسا الاخرين علي الخوف من الله العزيز الجبار الذ ي لاتاخذه سنة ولانوم, بينما هو لايفعل ذلك في العلاقة مع حماره الذي يعذبه ليل نهار, يستنطق كرم الله في هذه القصة الحمارعبر منولوج داخلي يكشف به قدرة الحمير علي التفكيرفي احوالها وظلم البشر لها ويطابق هذا الحكايات الشعبية التي تقول ان الحمير تكون ساهمة دائما الي السماء في انتظار ان يعود احد ابناء جنسها الذي حمل ر سالة ا لي هناك , وقد عبر الفنان ابراهيم الصلحي عن ذلك في لوحاته الشهيرة تحت تأملات.
( انا حمار الواعظ وللحق لولا صبري الوراثي والحبل الذي يشدني الي جذع الشجرة في ظهيرة تلك الجمعة لدخلت ذلك المكان الكبير الضخم والذي تعلوه مئذنة عالية و شققت الصفوف الي المنبر, ثم ادير ظهري له , وبكل قواي ارفس الواعظ الذي يتكلم عن الرفق بالحيوان , ثم انهق نهيقا تسمعه عبر مكبر الصوت الانس والجنس تعبيرا عن ثاري , فاثار الصوت وكدمات العصي علي ظهري التعيس ) يمثل الواعظ الصراع بين القول والعمل, او ان كرم الله تعمد اسقاط البعد السياسي في حالة الواعظ وحماره
يقدم كرم الله نفسه في حوار مع جريدة الصحافة فيقول , ( في البداية كتبت الشعر وانا اعتبر الشعر ذروة التعبير ولا يأتي الا لماما او انعطاف وجدي ، لاحقا جاء التعبير بالسرد والسرد اناء اكبر لكلام اكثر من الشعر ففي السرد تجد نفسك امام كاهن تود ان تعترف له او وطن بديل تلوذ به او تخصيب للحياة بواسطة الادب "آلام ظهر حادة" من اسمها كانت معضلة بالنسبة لي ومن اكثر القصص التي استمتعت بكتابتها في هذه المجموعة قصة (آلام ظهر حادة) لان فيها اسقاط لفكرة التسيير وهي فكرة قديمة اعيت المفكرين والفلاسفة وهي هل الانسان مسير ام مخير والاجابة علي هذا السؤال تتناسل منها اسئلة اخرى وبطل القصة حذاء لاحول له ولا قوة تنتعله ارجل بشرية تسير به .
لدي عبد الغني ( اعتقاد قوي بأن الاشياء تتحدث دائما حينما تقوم في الثلث الاخير من الليل تجد ان الكون فيه سر ما تجد ان الاشياء ممتلئة حيوية وتشعر بهذه الحيوية عندما تري الاطفال وهم يحاولون ان يتحدثوا مع الحيوان والجماد وهم مستمتعون. الاية القرآنية «انطقنا الله الذي انطق كل شئ» الحديث النبوي عن جبل احد (جبل يحبنا ونحبه) وايضا السيد المسيح عندما لقي تلاميذه على قارب واحيط بهم فتكلم مع البحر فهدأ كما يهدأ الطفل فالحياة حمالة اوجه اينما تولي فثم وجه الله )
تمثل قصة ( كلبة فاطمة ) انهيار السلطة امام الخوف , وسقوط الكبرياء في لحظة الضعف الانساني , هذه اللوحة الساخرة والتي تدفع القاريء الي الضحك تبدو كفيلم سينمائي تجري مشاهده في سوق القرية ( في هذا الحشر جري الناظر بصورة تحافظ علي وقاره وعلي قدسية الراي العام وكلما اقتربت الكلبة من رجلية نسي جزءا من الوجود المحيط من الباعة والنساء والشماسة, كانت الضحكات الساخرة تصل الي اذنيه وتجرحه , ولكن كشرت الكلبة عن عداوة قديمة فاوصله الخوف حد الصفر بين ان يضع للراي العام بالا , وبين انقاذ نفسه وباي طريق , وباي اسلوب خاطيء ام صواب , رديء ام جيد , مضحك ام مثالي, اما اهل السوق فا لجائع نسي جوعه, والحرامي اجل شغله , والصعلوك همدت رغبته, فقد تاجل البيع والشراء حتي يتفرجوا عليه , حتي ينسوا همومهم وغمومهم للحظة صغيرة )
هذا المشهد الذي يصعد فيه الخط الدرامي الي اعلي درجاته يربط ربطا محكما بين داخل الشيء وخارجه , شكله ومضمونه , صوته وصداه , فالناظر الذي كان يذرع الرعب في قلوب تلاميذه يفشل في المحافظة علي جبروته , كم هي الفضيحة مدمرة للذات, وكم هي طاردة للوقار الذي لا يجدي نفعا اليوم , ان قصة كلبة فاطمة نستجلي فيها انهيار سلطة الناظر الغاشمة امام عبثية الكلبة التي اختارت ان تكون وسيلة تعلن بها موت انسان سلم نفسه الي المجهول , ثم ياتي كرم الله في الجزار ملك الغابة لتعيش معزة سعاد ماساتها لوحدها عندما تكتشف الخلل الكوني في علاقتها مع الجزار, فالجزار لا ينظر اليها الا بوصفها طعاما للبني ادم لكنها تري انها واهبة الحياة للاطفال وان من حقها ان تعيش وتحلم بالبوع الخضراء وتغازل تيس القرية , وان حليبها هو الذي يمنع سعاد واسرتها من العوذ الذي يؤدي الي الموت , في هذه القصة يغوص عبد الغني في مشاعر بدائية مبهمة ينفي فيها الغريزة التي تواطا الادميون علي ان يصفوا بها الحيوان , فهو يحدد سمو هذه الغريزة بالرغبة في الحياة بل ويلغي المساحة بين اردة العقل المفكر, والنزوع الطبيعي الذي يمكن ان يكون تفكيرا , ومن ذا الذى يستطيع ان يجزم ان الشاه حين تواجه الجزار لاتشعر بدنو الموت منها فترتعد ووتتغوط علي نفسها ؟, ان نظرات الخروف الزائغة حين تقترب السكين من عنقه هي اشبه بمشاعر السجين حين يساق في اللحظات الاخيرة الي المقصلة واذا كان السجين يتحول كله الي حلم بالامل في الانقاذ في اخر لحظة, فان الشاة تحلم بالروابي الخضراء ( وسوف اذهب الي العالم الاخر الذي لا اعرف عنه شيئا سوي انه نهاية الارض, ثم اسقط في هاوية سوداء مالها من قرار )
ان اذني عبد الغني تصغيان الي اصوات كونية لايسمعها الا هو, وتلك شطحة صوفية تمسك بتلابيب الروح التي تعذبها الاسئلة المتوالدة بلا نهاية ,فالكائنات والظواهر عنده هي اشارات تجريدية الي معان لايتركها الزمن ان تكتمل, وهكذا يستمر عذاب الاسئلة يسيطر عليه فيصبح الوجود كله امامه حركة لاتستقر علي حالة والا تبدلت الي نقيضها.
ليس الذي قمت به تجاه هذا الروائي الواعد هو دراسة نقدية, لان الدراسة النقدية تتطلب ادوات اكثر دقة في التعامل مع النصوص , طبيعتها , واصولها , ومحتواها , والي اي نتيجة ستنتهي , ولكن ما سجلته يعتبر بالنسبة لي تجربة شخصية خالصة, تجربة قارئء يبحث في الخيال ويري فيه مخلصا للبشر من ورطة الوجود بقوانينه الصارمة التي لايقدر احد علي تغييرها .
الأحد، 4 أكتوبر 2009
حمار الواعظ في باريس!!

يا ترى حين يسعى الواعظ وحماره في شوارع باريس، أي إثارة ستنطبع على خواطرهم (أقصد القارئة، أو القارئ)؟!!. لا أدري لم جرى خاطري (للقارئة في البدء)، أهو تناص للسيباب النحيف، القبيح، حين قال (ياليتني كنت ديواني، لأفر من صدر إلى ثان)!!. هل نكتب لقارئة متخيلة!! أليست الكتابة "مغرضة"، بصورة من الصور!!. من هي، (ذواتنا)، ألهذا غاب المتصوفة في (سلمى ولبنى وليلى)، كحواء الروح، حين تكون الأم هي الزوجة، قبل أنماط الخلق الأرضي.. فالحمار هناك ماض، أيقونة تعرض في "حديقة الحيوان"، وفي قريتي واقع معاش، كالمترو، والموبايل والساندوتش في باريس، لا غناء عنه، بل هو هنا، بطل في قريتي، وجندي مجهول هناك، بربك كيف يلتقيان؟ (أيضا بالنسبة للقاري الفرنسي)!! وشتان بين (قراءته كماض، وواقع يعاش، دافئ،كخبز جلب للتوء من الفرن)... أم أترك الحبل للقارئ، بلا وصاية، وأترك للخيال قدسيته، فهو إله، لا استحاله بجعبة (أي الخيال)، وتكفي اساطير اليونان وليال ألف ليله، ومائة عام من العزلة، على تمجيد الخيال الإنساني، العظيم، لدى المبدع، أو المتلقى، فهم روحان حللنا بدنا، بعد ظهور (إبداعية المتلقي).!! ولكني على شك، يراودني، رغم كل ذلك، هل سيحسون بأن هذا الحمار التعيس، يحمل على ظهره واعظا حنبيلاً، أم شافعياً، أم مالكياً، أم متصوفا؟ أم مجرد واعظ والسلام. وهل يدركون بأن كل هؤلاء الوعاظ (مسلمين)، إلا أن لا رابط بينهم، عبر التاريخ، سوى السيف والعداء والتكفير، والتربص، فلم تحترق بغداد إلا بسيف الاعتزال ضد القرامطة والمتصوفة والخوارج والتشيع، وحوادث الخرطوم الدموية الأخيرة، ماهي إلا فهمان للدين الواحد، لا أكثر ولا أقل!! والأحزاب المؤثرة في بلدي: الأمة والاتحادي والاخوان المسلمين، مرجعهم جميعا (القرآن والسنة)!! هل يتمثلون غرابة هذا الأمر، كما تجلت في المسحية (كاثوليك وبرتستات، وغيرهم، حتى (شيفرة دانفشي لبروان، والرغبات الاخيرة للسيد المسيح لجوزيه كازنتزاكيس)!.. من يملأ ما بين السطور، فكلمة حمار في قريتي تولد في ذهن أهلي البسطاء معاني أكثر من مياه البحر الابيض المتوسط، وتولد كلمة "الواعط" معان من التقديس، والكراهية، والبغض، لا تحصر، وأهمها (بالنسبة لي) : رجل لا يفهم الحياة، ووكل إليه أمر تنظيمها)، بربك كيف تنحك الثريا سهيلا!!. ويبدو نهيق الحمير، لمن يكره الوعاظ، أحلى من صراخهم الكاذب من على المنابر، ولو "أن أنكر الأصوات لصوت الحمير"!!.. هل سيحسون بحماري، يؤرقني الأمر، فالنائحة الثكلى ليس كالمستأجرة، وهل سيسمعون الاصوات بأذنه الضخمة التي تتوج رأسه الجميل، "إن كانت القراءة تعني التقمص الأصيل"، فسوف يسمعون صوت الصراصير كأنها رعد، حيث يتمثلون حاله، فحركة اذنيه في الذريبة، يزعجها وقع خطوات النمل تحت حوافره.. وبادرني السؤال التقليدي، لم أختار "حمار الواعظ"، من مجموعتي (آلام ظهر حادة)، كلها، وهي تحوي 12 نص؟!! بالنسبة لي هي قصة عادية، من حيث تكنيك القص، والحبكة، وغرابة الموضوع، ولكني كتبتها بحنان بالغ للحمير، فأنا أحبهم " 4 كيلو، من وإلى المدرسة الابتدائية، يوميا على ظهورهم"، ولكننا أكثر رأفة من الواعظ، وأقل ثقلا من كرشة السمين!.. لم لم يختار مثلا "رائحة الطمي"، أو " آلام ظهر حادة" ذاتها، صاحبة الاسم، للمجموعة... فعلا، يا لتعدد القراءات، .... وطبعا، لم أسرف في وصف (الواعظ)، لأني حين كتبتها، كان القراء الذين أكتب لهم هم، على التحديد (بدرالدين عثمان، وعبدالله عثمان، الشبلي، وأمين، وأحمد جون، ومحمد بركات، وسيد رجب، وحسن أبكر، ونسرين عجبان)، فقط لاغير، وللحق أكتفي بهم للآن، وهم أقرب اصحابي، ولذا لم أتوسع في وصف "الواعظ"، لأنهم جميعاً يعرفون شكله، وسمته، وروحه، وقدسيته، وتناقضه، ومأكله "له الولائم"، ومقعده "له الصدر دون العالمين"، وملبسه، وهنا لا تكفي سطور القصة كلها لوصف ملبسه "الأزهري" المميز، رغم الحديث النبوي "أن الله يكره على العبد أن يتميز على أصحابه"، ولو بالملبس، وكان الأعراب حين يزورن النبي لا يفرزونه، إلا بعد تعريف نفسه!!.. وملبسه هو عمامه بيضاء، بحجم غيمة تحجب شمس الظهيرة، وملفحة، وعراقي، وسروال، وفوقهم جلابية، ثم عباءة ملونه، وطاقية، وعلى كتفه شال مميز، أي ملابس لو فرشت على الأرض، لغطت أكثر من مائة شماسي، مشرد نائم في ميدان الامم المتحدة، أو حول أطلال سينما كلوزيوم، وكمبوني. فإين (هذا دمي خمرا، هذا لحمي خبزا)!!.. فهل تسمع (القارئة)، والتي تنطق اسمع الشيخ جادالله خطئا، مهما أنهكت لسانها "الأعجم"، وقع حوافر أرجله وفوقه الواعظ السمين، والذي اكتفى في تحصيله الديني على كتاب ألف منذ 7 قرون، ولم يزد عليه سطر كتب بعد ذلك، وهو يكفر، ليوم الناس هذا، من يدعى بأن الأنسان مشى على القمر "لأنه في السماء الخامسة"، كما أن النجوم حجمها كحبة العنب، كما يقول (الزمخشري)،لذا فهي تتهاوى في النيل الازرق يوم القيامة، كالحجارة الصغيرة، والويل كل الويل لمن يقول بأن النجوم أكبر من الأرض، وما عليها من جبال ومدن وحمار وواعظ، فالويل كل الويل له، كجاليليو.. حتما، حين كتبتها، لم يجري بخاطرئ قارئة فرنسية جميلة، تتعرف على حماري بلغتها هي، فهل تحس به مثلي، أم أكثر، أم ينثال بذهنها تصور لا علاقه له بحماري، والشيخ جاد الله، وهنا تبرز فكرة (مستويات القراءة والتأويل)، وموتي "موت المؤلف)، فليرحمني الله، مع حماري، بل وواعظي المنافق!!.. وأخيرا، هانذا اتجول بحماري وواعظه في باريس، بدلا من طائرة وفيزاء، بعد أن أظهرالهوس الديني خطورة على المجتع الدولي،بلا استثناء، فحرم الكثيرين من التجول في اصقاع الكوكب، والتعارف، ومتعة الترحال (من المحال)، وكفى الله ابن بطوطة (خير التجوال)... وللحق كدت اقع على قفاي، وأنا اتمعن وجه الواعظ وهو يتجول في باريس بحماري الذي خلقته من ضلوع حروفي، كما خلق آدم حواء (لا أصدق هذه الاسطور، فحواء أقرب لخلق آدم، وليس العكس)، وهو يخترق الشانزليه، وهو يتوارى خجلا، وكذبا، حين يجد فتاة وفتى في قبلة طويلة تحت اشجار الصبار، وأكاد اسمع وقع حوافره في بلاط حديقة لوكسمبورغ، وتعجب الفتيات من ملابس الواعظ، وعمامته، ولحيته، وحماره!! وتعجب دعاة حقوق الحيوان، بل أراه يقف في تقاطع في الحي اللاتيني، حين يرى تمثال فتاة عارية، وسوف يهوي بعصاه على التمثال، وحين تتكسر عصاه، لقوى التثمال، سيخلع عباءته، ويغطي عورة الفتاة، وهو معرض وجهه عنها، وهو "يستغفر الله"، من الفسوق والمروق!... للنحات والتمثال، والأصنام!!.. والفتاة العارية تنظر بدلال عجيب جه الشرق، وقد حطت بعض العصافير على كتفها، ونشوة الفنان في نحت الدلال بيديه، لم يراه الواعظ في ظل غضبه.. هل تحسون بمعاناة الفن التشكلي في بلدي، حيث التماثيل اصنام (وفي البال تحطيم تمثال بوذا في افغانستان، وتمثال الاستاذ محمود محمد طه في كلية الفنون الجميلة في الخرطوم، بداية التسعينات)، وجهان لعملة واحدة.. وحياة الواعظ، لاتخلو من سهره ليال طوال، ليس للذكر، أو وجع ضروسه المسوسة من أكل الولائم والبلح، ولكن لمعضلة فقهية جديدة، لم تمر على ذهن واضعي الكتب الصفراء القديمة، مثل (زواج وطلاق الانترنت)، وبيع الطيور في السماء وبين الاغصان، وحرمة صوت الفتاة من خلال الموبايل، وخلوة (الماسنجر)!!... وهو ينحرف من الشازليه، كي يبارك الزوجة الثالثة لحمدان الجزار، أو يفتى بحرمة بيع نجوم السماء، أو يلوي (شريعته)، كي يعيد سعد لزوجته بعد ثلاث طلقات.. وأن بيده إدخال الناس الجنة والنار، مثل جدكم حين قال (أنا الدولة)، ومن سار على الدرب وصل، والتاريخ يتشابه، هنا وهناك، فالإنسان واحد، حيث كان.. حتما القصة لم تكتب لواعظ بعينه، بل حصان طروادة، كان ماثل بذهني، وهو الشيخ جاد الله، رمز السلطة الدينية، وخاصة في العقدين الآخرين، فقد كانت السلطة الدينية مقصورة على الجامع وبعض المؤسسات، ولكن هاهي تهيمن على السلطة، وأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والدستورية، والإعلامية، ويصل سيفها وقهرها وسلطان للكل، ويطال تعسفها جميع الشعب بلا استثناء، وبقوة السلطة والثروة، ساقت الشعب للذل، والاستكانة، والتشريد والهجرة والجنون. فحين نضع هذا الواعظ بيننا وبين الله، أو بينه وبين أنفسنا، أو بينه وبين أي حقيقة أزلية، كمن يضع زجاج أسود، أو قل جدار معتم، بيننا وبين زهرة معطار، فنحرم لونها البديع، وعطرها الذكي. فالإنسان هو واعظ نفسه، بأعظم واعظ، عادل وعبقري، وهما (العقل والقلب)، وهما معك قبيل الميلاد، فهم أحق بالرعاية والتعظيم، والترقي..وفي البال مآسي :جلد الفنانين، حرق المكتبة الغنائية لعثمان حسين وعركي والكاشف، حرق الكتب والتلصص وجلد الفتيات بسوء الظن، والتلصص على الأسر والبيوت، وتكريس العاطفة الدينية الفجة، واستفزاز الاديان الأخرى، وإهانة الفكر، والإبداع الحر، وإثارة النعرات القبيلة والعنصرية، والدينية.. **** وأنا أعرف واعظي جيدا، فقد يساهر الليل كله، لأن معضلة فقهية أرقته، وهي تتعلق بأن كلب قطع الصلاة، أو رن الهاتف بأغنية (قاسي قلبك علي ليه)، أثناء تكبيره الإحرام.. فاليوم سوف يساهر حتى الصبح، في مختبره، كي يجد محلولا، ودواء ناجع ل: بيع الطيور في السماء وحرمة صوت المرأة في الموبايل.. و.. وفتاو أخر..
اللوحة : من أعمال السادات
الأربعاء، 30 سبتمبر 2009
قراءة نقدية لمجموعة" الآم ظهرحادة" - بقلم د. لمياء شمت

حظيت المجموعة القصصية " الآم ظهر حادة" للقاص السوداني عبد الغني كرم الله,و الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر- بيروت, حظيت باهتمام نقدي واضح علي المستوى المحلي والعربي.
ورغم أن "الآم ظهر حادة" قد تبدو في ظاهرها كمجموعة نصوص أو ارخبيلات منفصلة, إلا أن القارئ لا يلبث أن يتبين أنها منظومة متكاملة يتحد فيها المضمون, و يشد بينها خيط المغذى والفكرة المركزية الواحدة, التي تتوسل بلغة مشعة بالإلماح و الومضات الدلالية بدرجة تتمثل وهج الشعر و كثافته و انخطافه. فلكل مفردة وزنها المحدد في النص السردي الذي لا يحتمل بطبيعته الزوائد أو التراخي و الاستطراد.
ومن نافلة القول أن لغة السرد تقليديا لم تكد تزد عن كونها حامل ووسيلة مباشرة لتحقيق زوايا المثلث الارسطي,حيث يتنامى الحدث باطراد تجاه ذروته, و ينتهي بلحظة الكشف أو التنوير التي يكتمل بها المضمون و يتحقق بها انطباع مفرد و آثر واحد. و بالتالي , وكما أسلفنا, فان اللغة تستخدم بالأساس كخام تشكل منه الشخصيات و تصاغ منه المواقف و الأحداث.
أما حديثا وبعد أن تحررت النصوص السردية من الفروض الشكلية و العوائق التقليدية, و أوغلت في التجريب ,فقد أصبح كل نص تجربة جديدة و بصمة خاصة في تقنيات السرد و الاجتراحات الفنية و الجمالية, بل والمحمولات النفسية و الوجدانية. وليصبح بالتالي للغة حساسية فائقة في سرد المادة القصصية, بل أنها تصبح أحيانا كثيرة ابرز عناصر المتن السردي. و لعل الكثير من القراءات النقدية قد توقفت مليا عند خاصية الاشتغال الجمالي المركز على النصوص ,مما جعل اللغة تقارب أن تصبح مادة القص و غايته معا. و يبدو ذلك صحيحا إلى حد كبير إذا ما تأملنا لغة مجموعة" الآم ظهر حادة" , التي تبرز فيها سمات عدة, نذكر منها:
* كثافة الإحالات و انفتاحها على احتمالات تأويلية متعددة. و يظهر ذلك في مقدرة الكاتب على استخدام التناص التحتي العميق لأقصى طاقاته الدلالية.
* حضور الرمزية كاستجابة إبداعية و توظيف سعة الرمز و مقدرته على حمل عبء الدلالات المكتنزة بالأفكار و الأسئلة.و يتم ذلك بتركيبة رمزية متوازنة تلوح بالمعنى الموارب و لا تجنح به للإغماض.
* الهجانة اللغوية الطريفة الناتجة عن استلهام المنبع الصوفي و المثلوجي و الفلكلوري الشعبي. حيث يفلح القاص كثيرا في نسج أمشاج الخيالي و الصوفي والفلسفي بأبعادها الرؤيوية لخلق حكايا غرائبية الأجواء, لكنها تبدو في ذات الوقت مألوفة و حميمة,إذ يقودنا فيها القاص بتأمل متمهل إلى طبقة من الرؤية اكثر عمقا , دون أن يوهن ذلك تلقائية السرد, وانسكاب اللغة.
* تخفف اللغة من لزوجة الطلاء الزخرفي و الإطناب البلاغي و الدثارات المجازية المتكلفة. و هنا أيضا يبدع القاص في طرح أفكار و رؤى مختلفة ذات أبعاد تأملية و فلسفية تتفرس في التجربة الإنسانية و ترصدها بدقة, بلغة هادئة أليفة و شديدة العفوية.
* الانفتاح على اليومي و العادي, ببساطة محببة تراهن على الاحتفاظ بالتفاصيل الصغيرة طرية و طازجة و حارة بروح الحياة اليومية التي تبث دفئها في مفاصل الكتابة.
.
*إعلاء البعد التأملي و الفلسفي في بعض النصوص, حيث تستسلم اللغة لغواية الخيال المجنح الممتلئ بطاقة الحلم و الجنوح,الذي يصعد الواقعي إلى مرتبة الغرائبي و الفنتازي, بسلم متداني الدرج يصعد بنا بترفق و تؤدة إلى معارج الخيال.
وفي منحى آخر, نحتاج أولا أن نعود لنؤكد على إن القصة القصيرة فن صعب رغم مظهره الودود, فهو يواجه تحدي اختزال عالم بآسره ليتضام في بضع صفحات معدودة.و لعل ذلك ما جعل هذا الجنس السردي إنجاز تكنيكي بارع ,يحتاج إلى معمار فني محكم و متساوق .
وعلى الرغم من أن الآم ظهر يصعب جدا تصنيفها أدبيا وفق المواضعات السردية المعروفة, كونها عصية على التأطير الشكلي, و غير خاضعة لقوالبه الجاهزة و شروطه المسبقة.فالأحداث مثلا في غالبية نصوص المجموعة تتخلق من فكرة فلسفية أو وجودية ينطلق منها النص ليؤسس نوعا من إعادة النظر في الإنسان و حقيقته. ومن هذه النقطة يراكم القاص الدوائر والخطوط , لينفذ من ثقب صغير إلى نصه الواسع حيث يتنامى السرد دافقا, مزدحما بالأفكار و الأسئلة التي يجهد القاص في أن لا يربك بها مجرى السرد ,الذي يتخذ في معظم النصوص مسارا سرديا دائريا, يبدأ من نقطة ثم يستدير مستعيدا بدايات الأحداث و تحولاتها .و كذلك, من الشائع في مجمل النصوص, أننا نتعرف على الشخصية المحورية من الجملة الأولى, حيث تحضر تلك الشخصية بضمير المتكلم كحيلة فنية يحتفظ بها القاص لنفسه بزمام السرد.و رغم التحفظ على منح صوت السارد سلطة الانفراد بالمساحة الأكبر في مجمل النصوص, إلا أن القاص قد اجتهد في استخدام هذه الذريعة الفنية للانسياب تحت جلد شخصياته و سبر أعماقها وكشف دواخلها و مكنوناتها.و من الملاحظ أن التركيز قد وقع جله على المونولوج الداخلي أو المناجاة, بينما اقتصر الحوار الخارجي على موضعين تقاسما العامية و الفصحى .وقد بدا واضحا أن استخدام الفصحى في الحوار قد قلل من قدرته على التأثير, و بالتالي أفقد الحوار قدرا من مصداقيته. على عكس حضور العامية العبقة برائحة بيئتها و النابضة بروح الحياة اليومية . إضافة إلى دور العامية المقدر في إحكام النسيج القصصي و تماسك بنائه الداخلي , وإسباغ المصداقية على الشخوص و الأحداث.
و يقودنا ذلك تلقائيا إلى بعدي الزمان والمكان, لنلاحظ أن عنصر الزمن يخضع بشكل كبير لمنطق الأقصوصة , تهندسه التقنيات السينمائية مثل الفلاش باك, و القطع و المونتاج لتثبيت اللحظة المعينة لابراز البؤر النصية الحساسة.أما المكان و رغم انه قد يبدو كحيز جغرافي محدود,إلا انه يتسع معنويا ليصبح فلكا شاملا.نحس فيه بحضور المكان الريفي القروي اكثر منه مكان مديني حضري. و رغم تبرم الأدب عموما بصلف المدينة و ضجرها و قيمها الزائفة ومبادئها المعطلة, إلا أن كرم الله يفلح كثيرا في تجنب الوقوع في فخ الثنائيات الضدية, و الصورة الرومانسية الساذجة للتقابل المنمط بين صورة المدينة و القرية.
و على مستوى الشخوص, لا يسعنا إلا أن نقف عند انتباهة الأستاذ صديق محيسى الواعية في رزنامة أستاذ كمال الجزولي,صحيفة الرأي العام, بتاريخ 10/4/2007, حيث يقول( رؤية كرم الله السردية للأشياء و الكائنات تعد تحولا مهما, إذ أننا لا نجد لها شبيها عدا ما ذهب إليه بشرى الفاضل من خلق شخوص موازية للبشر). وكنت قد أشرت في دراسة نقدية سابقة إلى أن سرديات بشرى الفاضل هي بالأساس قصص استبطان و تفلسف اكثر منها قصص أحداث و شخوص. و كرم الله في محاولته الإبحار إلى أفق مغاير يقترب كثيرا من تلك التخوم, و يشاكل العوالم البشروية بفلسفتها الطوباوية التي تحتفي بكل المخلوقات. حيث, و بكلمات الأستاذ محمد الربيع في الوطن القطرية:( يعيد السرد الاعتبار إلى جذوة الأشياء و للتفاصيل و يخرجها من عزلتها في الكون).
فمثلا يذكرنا"حمار الواعظ" بحمار آخر في مجموعة بشرى الفاضل "ازرق اليمامة" , يقاسمه التظلم من جحود الإنسان و قسوته, فيكون انتحاره غرقا بمثابة احتجاج جهير ضد رهق العالم.
و كل هذا لا يتقاطع مع حقيقة أن كرم الله قد تمكن باقتدار , و من تجربته الأولى, أن يرسخ فرادته كقاص استطاع ابتداع أسلوبه و حكائيته الخاصة الشغوفة باكتناه السؤال الكوني الأبدي. و قبل الانتقال إلى محور آخر, لابد لي أن اقف مليا عند الدمج الخلاق بين الواقعي و الخيالي و الفلسفي في نص " رائحة الطمي" , حيث الجدة في أن الأحداث و المواقف ترسمها الرائحة.حيث تحلق بنا تلك الحاسة في فضاء تخيلي واسع. ما يستدعي للذهن رواية "العطر", للألماني باتريك زوسكند و التي تحلل الطبيعة البشرية عبر بصمات الروائح.
و لنجمع خيوط ما ذهبنا إليه, يمكننا القول بان الحبكة رغم كونها قد تبدو رخوة, حسب المواضعات السردية, و أن الشخوص وفق ملاحظة حامد بخيت الشريف في السوداني "غالبا ما تتوقف عن التطور لمصلحة السرد", إلا أن القاص قد عمل على تعويض عن ذلك بعنايته الجمة بالتفاصيل, و دقة و براعة الوصف, و الخيال الطفولي المدهش الذي لا يرضى بأقل من أن يتلمس الأشياء و يتذوقها و يتشممها, بل و يفككها و يعيد تركيبها كما يشاء.ليمنح كائناته وجودا مبتكرا و حضورا أليفا , تبدو معه منخرطة في واقعها ,مستوية في مصائرها بادق تفاصيل الوصف والتصوير.و لابد لنا أن نقف هنا على رأي بشرى الفاضل في عموده تضاريس بتاريخ13/1/07
(ميزة كرم الله الأساسية تكمن في هذه العدسة المكبرة في مخيلته , التي تقترب من الكائنات و الأشياء راصدة لها بدقة متناهية).
و نعود مرة أخرى إلى إشكالية تصنيف الآم ظهر يعيننا رأي أستاذنا فضيلي جماع في الصحافة بتاريخ 1/8 عن لعبة التجريب السردية حيث تبدو نصوص كرم الله( اقرب إلى الخواطر وتداعيات الكتابة في لحظة تحرر من قيود الشكل و النمط).
ويستدرجنا ذلك لالقاء الضؤ على بعض المحمولات الفكرية و الفلسفية التي تشع و تتلامح بين ثنايا النصوص. و لعل أبرزها النفس الصوفي الذي يفعم أجواء النصوص بعبقه الخاص. و الفلسفة المتعالية(الترانسيندتالية) بثقلها الفكري كرؤية رومانسية طوباوية للعالم تمجد كرامة و حرمة الكائنات و حقها في الحياة. و تشمئز من السجن المادي و المعنوي الذي يرزح فيه الإنسان. فنحس و نحن نطالع النصوص بروح امرسون بميوله الروحية العميقة.و بمعاناة ثورو الذي اعتزل عالم اللهاث المادي , ليعيش مع المخلوقات الصديقة في كنف الطبيعة, في قلب الغابة في خلوة تأملية دامت لسنوات.و بحس والت وايتمان الذي اجمع نقاده على انه يتحد مع كل شئ, و لا يكف عن معانقة الاحياء و الموجودات من حوله. وبحضور استيفانز بإبداعه الرؤيوي و مقولته الرصينة: ( عليك أن تتمتع بطاقات غير عادية لتتمكن من رؤية العادي).و لا يسعني أن اختتم دون المرور بموباسان و رسالته الخطيرة لصديقه موريس فوكير بتاريخ 17 يوليو 1885 ,حيث يقول (إن الكاتب الذي يبهرني حقا هو من يحدثني عن حصاة أو جذع أو فأر أو مقعد قديم ). و ختاما فان الآم ظهر حادة قد قالت كلمتها, و أسلفت لنا يدها إبداعها,في محاولة للقبض على جوهر الرؤية الكلية النافذة, و طرح الرؤى و الأفكار, و التحليل و التفلسف, بمخيلة حكائية خصبة, و بأسلوبية مطمئنة,على صهوة لغة استطاعت أن تحافظ, عبر النصوص, على طاقة انسها و جماليتها و عفويتها وانسيابية دفقها.
الآم ظهر حادة -وأستعادة المخلوقات من أطمار الإهمال و النسيان و العزلة- بقلم د. لمياء شمت
و كما أسلفت في دراسة سابقة فان "الآم ظهر حادة"هي اقرب ما تكون إلى سرد جواني يهتم بالمشاعر و الوجدانات و العمق النفسي, اكثر منه حبكة وأحداث و منعطفات سردية و شبكات علاقات. فالقاص لا يكاد يكف عن التوحد مع المخلوقات متجاوزا ظاهرها إلى جوهرها, و منحازا لضعفها و جاهدا لاستعادتها من أطمار الإهمال و النسيان و العزلة, بنزوع ملح لتحويل الهامش إلى متن بطاقة إشارية خلاقة.
و تماما كما أن شاعر فرنسي كان قد تمنى لقصائده معان بعدد قرائها, فان هذه الورقة المختصرة لا تعدو أن تكون مجرد محاولة للقراءة.
الآم ظهر حادة
"الآم ظهر حادة ", وهي أول و أطول قصص المجموعة.والنص ذو مسار سردي أفقي يمتد خطيا بين أحداث شتى. و صوته السردي يمثله حذاء رجالي, يتقلب بين أرجل البشر ذوي النوازع المتناقضة, فيحتله جاثوم الكآبة و هو يسعى بين أقذار الحفر والبرك, وصهد الشمس ,و عفن الرطوبة. لكنه لا يكف في محنته عن مراقبة الكائن الآدمي السادر في غيه, و المنفلت تماما عن عقاله , وهو يهدر في عبثه الضار الحيوات من حوله دون أن تهتز له جارحة.فيتفجع الحذاء -المفعول به- الذي لا يكاد يملك من أمره شئ تنتعله و تقوده الأرجل الخواء, " قتلت برعم شجرة صغير, قد يملأ عبيره الشارع غدا, و يصبح شجرة ضخمة تصبح مأوى للعجزة و الشحادين". و مرة بعد مرة تتكرر المأساة ," ثم سرنا لينحرف فجأة فيدوس صرصورا هائما, كان سعيدا هو متجه لجحره حاملا على رأسه قوت أسبوع لعياله" ,و نرى النملة المدهوسة بالحذاء وهي تحتضر, " ثم خطا نحو موقف أبو جنزير, فاختلط جثمان النملة بقطعة ثلج ملقاة, فانتعشت روحها المظلومة في أول درج البرزخ".و يظل الحذاء يراقب البشر بروح أسيفة وبعين تحليلية نافذة و حس فلسفي مرهق بحزنه النبيل عبر أسئلة كاشفة تضئ دلالة النص و مغذاه " لم تقم الحياة على الصراع,على قهر كائن لكائن؟!" ,ليقودنا ذلك إلى لحظة الكشف النصية حيث الإنسان ليس إلا حذاء اكبر تمتطيه و تنتعله من القسريات و الاكراهات و الانكسارات ما ليس له به قبل.
و من اللافت في هذا النص السردي استخدام عنصري الزمان و المكان كوسيلة للإفضاء بالرؤى و الأفكار وعكس الخلفيات النفسية و الشعورية. فعلى سبيل المثال يجنح النص إلى قتامة السياق الميلودرامي و خفوت الايقاع لتصوير حالة العجز و المرض للجسد المنهك و الروح المبتلية بالسقم كصورة للارتكاس و الهزيمة. بينما يميل للمرح و الخفة بتسخير الوصف البارع ( كانت الأرجل تسير بوداعة و بطء, و كأن المشي غاية في ذاته, لم تكن تمشي, بل كانت تعزف على طبل الأرض إيقاعا دافئا و كأنه طرق مطر خفيف على مظلة موسيقي مسن). و كذلك مما يجدر ملاحظته توظيف طاقة الرمز لخلق نص متماور متعدد السطوح, و من ذلك استخدام تيمة ( الوتد) بكل طبقاتها الدلالية, و ظلالها و توتراتها في وعي القارئ, ليؤسس بذلك نص متماسك وذكي, قادر على طرح اعقد الرؤى ببساطة و روية.
كلبة فاطمة
و في هذا النص يكثف القاص الرؤية و يصوبها مرة أخرى تجاه الإنسان الذي يحتاج بشدة لأن تنزع قشرته الصلبة, لتسقط أقنعته فيكاشف جوهره و يستشرف حقيقته .و السارد مدثر التلميذ اليافع بمدرسة قروية, تمثل سجن ذريء تقمع فيه الطفولة و روح الاكتشاف على يد سلطة سادرة, يمثلها الناظر المترصن القاسي, الذي تأتي كلبة صغيرة عجفاء لتعريه من دثاراته و أقنعته الكاذبة.
و قد برع القاص في خلق خصوصية للإحداث و تثبيت حضور الشخصيات بحكي سلس يمتد عبر مسار أفقي صاعد ذو تزامن خاص, ترفده تقنيات التصوير السريع و الوصف الحركي غير السكوني, مما جعل للنص مناخا شديد الدينامية.و مما يميز النص كذلك تقنية المونتاج الزمني لتثبيت اللحظة و تحويلها إلى صورة فوتوغرافية, تقتنص اللحظة و تسرمدها_ كما في مشهد السوق- و كذلك الوصف الطبوغرافي للمدرسة الذي يعطي اقتراحات للنظر من زوايا مختلفة,كأن يستشرف المنظر من عل .
و يأتي هذا النص كواحد من النصوص التي تمثل فيها عين السارد أداة مهمة للقص , عبر مراقبتها الدقيقة لتطورات الأحداث و تحولاتها.لنرى عبرها تلك اللحظة النصية المفصلية التي تطارد فيها الكلبة النحيلة ناظر المدرسة مرهوب الجانب, في و صف كاريكاتوري تظهر فيه العناية الجمة بالتفاصيل التي تمتح من خيال طفولي طري يمثله صوت مدثر الذي يتصور أن الناظر الهلوع سيركض مؤكدا كروية الأرض,عبر سرد طريف لا يآنف القاص فيه أن يعرج بنا من درج التفلسف و الاستبطان إلى براح التفكه الساخر و الكوميديا الباعثة على الضحك ,"-تسلق جبال الانديز, فذابت من أنفاسه ثلوج القمة, فسالت فائرة في حقول البن, فملأ الفقراء البراميل و الكبابي من فيضانات القهوة الحارة,و لعن أصحاب مزارع البن ثقب الأوزون".
و في نهاية النص تكسر توقعات القارئ تماما, فالناظر لا يحنق في دخيلته على الكلبة التي عرته على الملأ, بل يحمد لها أنها قادته لخلاصه- "فقد سقطت من ظهره ملايين الأقنعة و الهموم و المظاهر الكاذبة التي كان يتصنعها لمجاراة رأي عام صارم و متحجر".
حمار الواعظ
و يتناول النص موضوعا يحتل موقعا حساسا في إطار يقع بين الدين كقيمة عليا و الوعظ المجاني الذي قد يتحول أحيانا إلى مجرد وظيفة و تقاليد شكلانية خالصة لا تمس الجوهر. و من فوره يستدعى النص للذاكرة رائعة غراهام غرين(السلطة و المجد) التي عرض فيها نموذج الكاهن الفاسد الذي يمثل رجل الدين السيئ الذي يشوه ,غير عابئ, وجه دين متسامح و طيب.و الفكرة أيضا وثيقة الصلة بما تناوله هوجو في (أحدب نوتردام). غير ان كرم الله يقدم الصورة هنا بأبعاد أخرى للواعظ المحروس بأكاذيبه, ووعظه التلقيني الخطابي المفلس , الذي يكشف شبقه و جوعه للسلطة و التحكم في مصائر مستضعفي القرى و النجوع الصغيرة.
و السارد هو حمار الواعظ الذي يشفق على أذنيه " من تقريع الخطب الجوفاء, و التي تخلو من أي حدس أو ذوق", والاهم أن الخطب تلك لا تشكل أي وازع للواعظ الذي لا يرعى جوارحه, فيتلصص مختلسا النظر لمفاتن الفتيات الصغيرات, و تنطلق حنجرته في خلوته بأغان سمجة رديئة ظل يحرمها على فتيات الحي , بل و يصب جام ظلمه و استبداده و قسوته على كافة المخلوقات حتى النباتات, دون أن يستثني من ذلك حماره الصبور , الذي يهلكه الضرب و التجويع و صهد الشمس فيتعزى بأن "سيأتي يوم, تشهد كل الأشياء بما جرى لها, وستصطف معي طوابير من المظلومين الذين سحقهم الواعظ بغير ذنب, .... طوابير من الحشرات و النمل و القمل و القطط و النباتات و الجراد و أوراق الشجر و الذباب و العقارب".
و عبر توظيف مقتدر لتقنية المونولوج الداخلي, يتمكن القاص من الإمساك بالعصب المحوري للأحداث, ليصور بدقة سقطات العقل السلطوي المستقيل. ليذكرنا إدراك الحمار العميق للواقع من حوله و حلمه العزيز بالخلاص العظيم بمزرعة الحيوان لجورج اورويل,حيث تناضل الحيوانات لتطيح بالسلطة البشرية الغاشمة, و تصوغ معا نشيد ثورتها الرسمي:
ستزول الحلقات من أنوفنا ** سنرمي بالسروج من ظهورنا
وستصدأ المهاميز و الشكائم للأبد** لن تلسعنا قط السياط القاسية
رائحةا لطمي
وهو نص ذو سرد غرائبي يتميز بغلبة الفضاء الشعري على المونولوج الداخلي ,فينثال متخففا من الخضوع التقني و الأسلوبي. و السارد روح أثيرية شفيفة تسافر على سفينة الريح.وتعلو رائحة الطمي على كل رائحة بأنها لا تسافر فقط عبر الريح, و لكنها أيضا تخترق حجاب الأجساد و الجسوم لتنفذ إلى الأرواح و السرائر فتنفض عنها سخام الأسى والهموم "بدت الرئة و كأنها جدار فرن أسود, غسلت بسرعة البرق هذا الروث الروحي و أخرجته مع الزفير, ثم أخذت أتسلل عبر دمه إلى العين ووجدتها حزينة موجعة فغسلتها من شوك المناظر الفاسدة" . و النص مكتوب بحساسية خاصة و بلغة تقترب كثيرا من تخوم التجريد, مستدعيا للذهن أجواء كتابات أمريكا اللاتينية, حيث المزج الخلاق بين الواقعي و المتخيل و تداعيات اللاوعي و تراسل مدركات الحواس بنكهة كاريبية تخرج النص من طقسه الأسطوري إلى أفق الحياة اليومية.
الجزار ملك الغابة
أما السارد هنا فمعزة بروح و غيرية أم حنون ترعى السعدة على أطراف النهر بفرح غامر, لتدرها لبن سائغ لصغار الآدميين بنبل عظيم ,و ترفع رأسها مطالبة بحقها في الحياة و اعتراف الإنسان بحرمة الذوات الأخرى,و تمضي مستبشعة للبؤس و الادقاع الروحي و القسوة الآدمية,تحلم بالخلاص, تماما كحمار الواعظ , " تمنيت أن يهبني الله جناحا مرفرفا فأهرب للسكن في السماء مع الملائكة....طوبى للأغنام التي ترعى هناك , فلا يكدر صفوها ساطور أو سكين" . و عبر مراقبة المعزة للأحداث نستطيع أن نتعرف على شبكة العلاقات, و الخلفيات الاجتماعية و الظروف الحياتية لأسرة سعاد, الأنثى الكسيرة التي ترزح تحت وطأة الفقر و الحاجة.فلا تجد إلا أن تنذر معزتها لسكين الجزار لقاء حفنة مال يسبل عليها الستر و يطعم أفواه صغيرة جائعة.
و باستخدام تقنية التركيب و المونتاج يتمكن القاص من ربط وقائع مختلفة و دمجها في إطار زمني واحد بإبطاء الزمن السردي أحيانا لتسخيره كمرآة لواقع حالك, تقيم فيه المعزة مقارنة فاقعة مخزية بين بشاعات البشر ووحشيتهم, وبين إنسانية السوام " التي لا تسرف و لا تتكبر ولا تكذب ولا تتزيا بغير جلودها". ليسطع أخيرا المغذي الذي ظل مبثوثا في سماء السرد عبر النصوص, وبخلاصة مطابقة لما أدركه الحذاء في النص الأول, تيقن المعزة بأن البشر ليسوا بأقل ضعفا وعبودية منها , فهم أيضا ذوات مسترقة و مكبلة بعشرات الحبال و الأوتاد.
استدراج الفراشة لعرشها المجيد
وهو نص استفزازي من طراز رفيع لا يكتفي فيه القاص بان يلغز و يرمز و يؤمي, بل ينزع الغطاء مباشرة عن موضوعه باحتدام زاعق يآنف التعمية على جذريته الحاسمة.
و تسلط بؤرة الضؤ على الأنثى في متاهات القسوة الذكورية. لنرى بائعة الشاي التي تتعرض لهجمات معنوية عنيفة تجاه إنسانيتها و انثويتها, حتى ليصبح العنف المادي من ركل و سحل و امحاء هو عين الرحمة " و لقد قام الجنود بدورهم بأكمل وجه, فبأحذيتهم الضخمة كسروا في لمح البصر كل ممتلكاتها من الكبابي و الفناجين, أما الضابط, رجل المهمات الصعبة, فقد رفس بكل ما يملك من قسوة, الكانون في وجهها, فتوضأت أقدامها المتعبة بماء حار كان على مشارف أن يكون شايا أو قهوة".
و النص يفور بالأسئلة الواخزة الكاشفة التي ترفع الغطاء عن المطمور في الصمت و الانكار,حيث يتخلى القاص عن حذره في المقاربة كما أسلفنا و يطرق الموضوع مباشرة, ليفكك العنف و يفضحه و يفرغه من مبرراته, محتالا, في بعض الأحيان على سلطة التابو بانتخاب مفردات ذات طاقة دلالية و إشارية عالية "أما الضابط...فقد ركلها في رحمها, مصدر رزقها المبارك, فتكسرت أضلع و أرفف دكانها الوحيد".
و بدقة متناهية في الوصف و اعتناء جم بالجزيئات نرى الأنثى وهي تجر إلى وئدة مصير قاتم ترسمه النزوات السلطوية و الرغبات الذكورية المريضة, لتتقلب( المهيضة) بين أنياب القسوة و القهر, حتى تدركها نعمة الذهول و الحتوف الرحيمة.
الدجاجة أقوى من الأسد
وهو نص يتوغل بكامله في حقول مقولة برنارد شو " هل الإبداع إلا استدعاء متعمد للطفولة !! "
و يفلح القاص هنا في تمرير لحظات عميقة الرهافة,عبر سرد جواني البعد, يرفده خيال غض معجون بالطفولة, حتى لنحس بان هناك اكثر من خيط يمتد بين النص و بين واقع ما لمبدعه.حيث تتحرك الذاكرة صوب جذورها باستخدام آلية الاستعادة في إطار تذكر تحليلي نفسي وجداني يمثل صعودا إلى سطح الوعي ليتوج الطفولة كمحطة هامة ساهمت في تغذية وعي القاص و تكريسه كاتبا .
و يرتكز هيكل النص على تحليل الأفكار و الاتجاهات للكشف عن الأعماق النفسية والانعكاسات في وعي الطفولة ووجدانها و عرصات رؤاها, بلغة عفوية متوهجة بانفعالها الخاص, ترد الحياة إلى عريها الأول بلا أقنعة و لا دثارات أو أحكام مسبقة, حيث يبلور القاص رؤيته باستخدام مقتدر لآليات التذكر و الاستدعاء و الاسترجاع التي تمتد لتصف الفيض السمعي لنقاط الماء الساقطة من قعر الزير "إنها اضال أمطار في الكون, و بنقطة يتيمة طوال اليوم بلا رعد أو برق أو ملل, سوى ذلك الدوي الحنون, و الذي يثير في الدار الساكنة غموض كنه الوقت" .
جزيرة النمل
يمتد خيال القاص الذي يتفقد الموجودات من حوله بعناية جمة,سواء كان ذلك حذاء فاغر أو بصلة مطعونة أو حصاة منسية على قارعة الطريق بمتخيل مفتوح على إمكانيات تأويلية متعددة,ليطرح عبر هذا النص ,حيث تتزاحم الأسئلة الوجودية المقلقة على ضفاف الروح, فكرة الوحشة العميقة في وجود معضل.و السارد حصاة رهيفة حانية تلوم ذاتها " ذلك لأنني أدميت في حياتي وجه طفل يتيم, ورأس عشة المجنونة, حين قذفني الأشقياء نحوهما,بلا حول مني و لا قوة, فأيدي بني آدم هي التي ترسم مصيري " لتجعلنا ندرك من فورنا المقارنة الواخزة بين حجر إنسان و إنسان حجر, مستدعية المقابلة القرآنية بين القلوب الصم و الحجارة المتشققة لينا و رحمة. و لكأن صوت المعري المتعثر في وحشته الوجودية يمس روح النص:
ما منهم بر و لا ناسك إلا إلى نفع اليه يجذب
افضل من أفضلهم صخرة لا تظلم الناس و لا تكذب
حواس مغبرة
وباستخدام الرمز القابل لامتصاص الدلالة نتعرف هنا على الكلب فوجي الخائف الوجل حتى من انعكاس ظله على الماء, في مقاربة هادئة عميقة لروح مدثر اليافع المستعبد للآخرين بإشفاقه الجم من اهتزاز صورته في مرآتهم. مما يجعله يكاد يقارب مأساة مبدع لوحة الغلاف بول غوغان و هو ينعي هوانه و قلة حيلته ووجله من أحكام الآخر بمقولته الشهيرة التي أطلقها في أقاصي البحار الجنوبية في جزيرة دومنيكيا النائية ( انتظر هنا كفأر في برميل في وسط المحيط).
اجمل سباق
وهو نص قصير مسكوب بأقل قدر من الكلمات و اكبر قدر من الحساسية التي تجسد الطفولة الحرة المنطلقة إلى معانقة الحياة و تفقدها بعين عذراء دهشة تنفض الغبار عن المدفون تحت سطح المألوف. و بخلق فضاء حميمي خاص يستطيع القاص أن يحول النص من مجرد إطلالة على مشهد عابر لأم و طفل على الطريق, إلى لوحة صغيرة يضع لمساته بحنو عظيم على كل رقعة فيها, مما يعين على الإحساس بمبلغ العناية والبراعة التي يتفحص بها القاص أدق التفاصيل سبيلا للولوج للداخل.
"أمه لا تعير اهتماما للأشياء النفيسة التي تسبي عينيه الشاعرتين,انه مشغول بنفائس الأرض و كنوزها, حشائش و حشيرات و حصى و يرقات...غارق حتى أذنيه في انثيال الحياة أمامه".
توبيخ الحبيب
تماما كما يؤمن الناقد الفرنسي المثير للجدل راسكين بان الإبداع هو ذاك الذي يضع الروح أمام حشد من الأفكار الرفيعة التي توقظ الشعور بالعلو و التساوق و الصفاء فان سارد هذا النص و هو كتاب مهجور يتوسل لقارئه أن يلج عبره إلى عوالم بكر و فراديس متاحة و متع دانية.
كإشارة إلى طقوس القراءة كفعل إدراكي مقدس من جهة و التلقي الواعي كحبل للنجاة من جب اللاحياة " ها أنت ملك نفسك, متوجا في كينونة الزمان و المكان الداخلي, سابرا أعماقك, منصرفا عن شروخ الأفاق, تصحو بفعلي في دواخلك أبخرة مقدسة, تحوم بداخلك برقصات مخمورة و ملونة و مضيئة بالإشراق و البهاء و الارتعاش المبارك".
رقص على طبول النسيم
و باتجاه سردي وصفي غالب على طبيعة السرد , ترخي الأسلوبية الشعرية سدولها على فضاء النص, حيث يواجه السارد مشهد تصاعد الدخان المتراقص من عود بخور بعين متأملة نافذة على نحو يخرج الأشياء من مألوفها و يغلفها بالغموض والسحر " وحين استسلم البخور كليا, أطلق النسيم عنان جنونه المكبوت,عنان خيلائه بذاته, تلاعب بجسد البخور مظهرا قدرته المذهلة على الرسم و النحت و التصميم البكر, ممسكا عصاه في قيادة أوركسترا الليونة المطلقة, جوقة من السحر و المجون و الدهش". لينفرد النص بان القاص يذهب فيه للسرد بشروط الشاعر الذي يسمح لكائنه اللغوي بالتحليق الطليق في سماء النص, بشلال من الكلمات ينهمر راعشا تماما كضربات فرشاة تشكيلي يبحث عن جسر ما يصل المرئي باللامرئي.أو كما هو والت وايتمان في مفازاته المخاتلة ينشد : لحظة من عذوبة صوفية, ملامسة شيء لامرئيمكيدة عاشقة بين الهواء و الضؤ.