الاثنين، 2 نوفمبر 2009

البراد فوق الكعبة!!


إهداء: إلى الظلال، والأنوار،.التي غذت حياتنا،...كالأم!!..

بعد أن تغمض الشمس عينها العوراء عند الغروب، وقد أحمرت من بؤس ما رأت على ظهر الأرض، وهي تنفث آخر زفير لها، دم برتقالي، شاعري، حزين، حنن الأفق، ، يحتل ظل الأرض، المسمى مجازا الليل، أركان القرية، ويمسح ببشاورته البيوت والحوائط، حتى المئذنة العالية وصلها، وأخفاها في جيبه الضخم، كل ابواب وشبابيك القرية يلونها الليل بريشته، وبضربه فرشاة واحدة يحيلها للون رمادي قاتم، وأسود، لا نشاز في ألوانه، ولن تجد بقعة قاتمة وأخرى فاتحة، ما أتقن ريشته، كم كان ماهراً، وسريعا في إخفاء قريتي كلها، أتحدى من يغلبه في الدسوسية، يبدو طفلا شقيا وماكر..

وحدها النجوم لم تصل إليها ريشته ..

أشعلت أمي الفانوس في التكل، تسرب ضوء منه عبر الطاقة، فكشف شريط مستطيل من الحوش، وألتمعت عيون الدجاج بطيف ازرق وبنفسجي، إثار قشعريرة خوف صغيرة، وسريعة في بدني، وتسرب جزء من الضوء من الباب، وعكس صلب أمي، وهي منحنية، ضخما، وكأنه صلب فاطنة الصومالية،، فضحكنا انا واختي حتى كدنا ان نقع على قفانا، أمي دوما تفرحنا، حتى بظلها الكاريكاتيري..

خرجت أمي من التكل، وهي تحمل الفانوس بيدها اليسرى، وقد خلق حولها هالة دائرية، كمسيح متجول، نذر نفسه لكشف قناع الظلام عن الترابيز والكانون والسراير، والملايات، ممن الضوء، الفانوس أم أمي؟، فتعود الألوان للشبابيك، والعناقريب، والمخدات، ولكن بصورة أقرب للحلم، فأين الفانوس من الشمس، وأين وهج القلب من إحصاء العقل!!..

دخلت أمي الأوضة، فملأ الليل الحوش في رمشة عين، لا أدري اين يختفي الظلام، ويعود بهذه السرعة، واين يمضي، وهو بهذه الضخامة، فقد غطى القرية كلها، والخلاء، والسماء، وماوراء ذلك، من مساحات، حين احاول تخيلها، أحس بهوان، هوااااااااااااااااان، حتى تمنيت أن أكون أسرع من الضوء، بحيث لو تسابقنا، أكون أنا في الظلمة وهو يجري خلفي، وارى حد الظلمة والنور..

وحين علمت "بعيد حين"، أن الكون يتمدد، إلى يوم الناس هذا، تمنيت أن أرى الحد بين نهايته، وذلك الخلاء الذي يتمدد فيه، إليس هو كون ايضا..

تقدم الشعاع الفاتر أمي، وهي تخرج من الاوضة، وبيدها كبابي، وصينية لشاي المساء، ثم اجتازت عنقريبي وعنقريب اختي، حتى جلست شمالنا، والاوضة جنوبنا..

وضعت امي الكانون، والصينية والكبابي، ثم اشعلت الفحم، ووضعت البراد فوق الكانون، ثم جلست فوق البنبر صابرة، راضية، لا أدري فيما يغني وجدانها الآن..

انا واختي كنا نرى كل ذلك على الحائط الطيني للاوضة، كنا نضحك من رسومات الظل لأمي والبراد، والكبابي، لم تترك الظلال شئ لم تسخر منه، وكأنها تلميذ نجيب لشارلي شابلن..وفجأة اتخذ الكانون شكل الكعبة المشرفة، "هي .. هي"، شكل معكب جميل على الحائط، وبصورة مكعبة، وذات الابعاد، والمساحات للكعبة المشرفة، وذات اللون الاسود،

صرخنا، أنا، وأختي في وقت واحد (الكعبة الكعبة)، لشدة اتقان الظل رسم شكل الكعبة، وكأنه رسمها في عتمة الليل مئات المرات، وكأنه حج مع أبي، وحج مع أمي، وحج مع علي ودالسالم، ورأى الكعبة، عشرات المرات، واختزنها في عقله، ورسمها بتلك الدقة المتناهية، في ظلمة الليل....

كانت امي تحرك الفحم فوق رأس الكعبة، وقد اشتعل جيدا، وبصورة شاعرية، لهب برتقالي وازرق بشكل ورق شجر الليمون، ورق من نار ونور، يتلوى من فحمة لأخرى، مثل طرح فوق رؤس نساء يولولن، لرحيل فارس قبيلة،.. ثم وضعت أمي البراد فوق اللهب، فوق الكانون

صرخنا أنا وأختي معا، ونحن ننظر للحائط ، "للشاشة الطينية".

(البراد فوق الكعبة، البراد فوق الكعبة)!!..

نظرت أمي إلينا، وقالت..

بس.. مجانين...

بغته ظهرت بطة فوق الحائط، لم تكن سوى ظلال يد أختي الماكرة، هزت البطة راسها تعجبا من الكعبة والبراد، مضت البطة ببطء نحو البراد، وحين همت بالشراب منه في الحائط، صاحت امي من النبر،: لا ياسعدية بتحرقي منقار البطة، البراد حار..

ضحكنا على أمي، وأدخلت سعدية يدها تحت الملاءة، وتلاشت البطة من الحائط، كم يطيع المخلوق الخالق، بقصد، أو بدون قصد، كما أطاعت البطة رسغ أختي، وأصابعها الماكرة..

شربنا الشاي، الكباية دافئة في يدي، والليل اسود كشعر "آمنة"، وأنزلت امي البراد من سقف الكعبة..

فرشت امي المصلاية، لصلاة العشاء، صحنا أنا وأختي لأمي:

يمه يمه القبلة كدي..كدي..

أشرنا للكعبة الصغيرة التي تزين الحائط..

مصمصت امي شفتيها، وهي تهزء رأسها بهدوء، وتعجبَ!!

ثم شرعت في الصلاة، وفي قلبها رضى عجيب، لله، الذي اصبغ لعيالها سينما صامتة، "أبيض وأسود" على وجه الزبالة، وهي مسدلة على الحائط الطيني..

فيما ظللنا انا واختي نرقص وننطط من البراد والكعبة وفاطنة الصومالية وامي ورائحة الشاي المقنن، وأكتشاف قبلة ثالثة، وحلاوة الليل العجيبة!!..