الخميس، 8 يناير 2015

اللص العظيم، اللص الجميل ماركيز!


gabooo

في البدء
(إن النفس لا تفقد من مضمونها شيئاً، لا يوجد شيء اسمه نسيان. كل إحساس، وكل تجربة، وكل خبرة، وكل عاطفة مهما بلغت من الهوان والتفاهة لا تفنى ولا تستحدث، وكل أسرار قلوبنا ووجداننا غير قابلة للاندثار، كل ما في الأمر أنها تنطمس تحت سطح الوعي، وتتراكم في عقلنا الباطن لتظهر مرة أخرى في أشكال جديدة).
كارل يونج/عالم نفسي


 التناص قدراً
ثمة ثلاث طرق للسرقة:
اللص الوقح يسرق الكلمات، ولص يسرق الفكرة، ولص مبدع، لا يترك أثراً لسرقته، (1) فهي تناص، وروح بيت عنترة، عشيق عبلة (هل غادر الشعراء من متردم، أم هل عرفت الدار بعد توهم).. كما سرق البشر، صورتهم، من جدهم الأكبر، آدم، فحدث أكبر “تناص” جيني، ذات الوجه، والملامح، والشعور، والحيرة، من جيل لجيل، بل ذات مكر قابيل وهابيل، يتجلى في حروب اليوم، في تقليد آخر للماضي.. وكأن الحاضر، مرآة الماضي، وليست حلم المستقبل، ومن قال الماضي كله جاف؟، ولا وزن لقصائده الدافئة؟، أيكون الفرح العظيم أن يطير الإنسان بجناحي ماض خلوق ومستقبل سعيد، (ما أكثر الأخيلة لحل الإشكال، لدى الشعراء، والفلاسفة، .. والحكام) الأشياء أسيرة نشيد العودة، يتكرر، الغروب والشروق، الشهور تمضي وتأتي، بذات الأسماء (يناير، فبراير، مايو، ديسمبر، … يناير فبراير،)، وكذا الأيام، يا له من تناص كوني، يضمر بجوفه سراً ما، نغماً ما، فليس التناص، والتقليد، حصراً على قبيل الأدب، بل سمة حياة، حيوان، وبشر، وإنسان، بل نجوم ومجرات، وقع حافر على حافر، ومن سار على الدرب وصل، أين نصل؟ ومن نقلد؟ أنقلد آدم؟ وآدم من قلد؟.. أقصد آدم الحكي الأول، كي نفضح السرقات العظيمة، السرقات الجميلة، فالأميرة شهرزاد، والتي سرقت الحكايات المعاصرة، أغلب سحرها، وحبكتها، هي الأخرى، أ ولدت بلا أم أو أب؟. الطبيعة لا تعترف بهذه الاستحالة، سوى في الحكايات، أخلقت ذاتها، بيدها لا بيد أبيها الوزير، وأمها الغائبة تحت الخمية، ألم تكن الحكايات العربية، هي إرث الفرس والهند، والعرب؟، يردد القلب، صادقاً:
الناس من جهة التمثيل أكفاء، فالأب آدم والأم حواء
وإن كان في أصلهم شيء يفاخرون به، فالطين والماء.
ولكن الطين والماء يدخل فيها حتى النبات، ذلك الكائن الحي، الأخضر، والذي يعيش بلا أرجل، بل ساق وحيدة، لا يفارقه وطنه، ويموت واقفاً، هو الآخر يقتفي أثر أبيه وجده، وقع حافر على حافر، تناص أخضر، فقد سرق الموز الحالي، مذاق طعمه، من براعم موز قديم، ضارب في أديم الأرض الرطبة، سنين عدداً، تخيرت جذوره من قوت الأرض تلكم الرائحة، والمذاق الفريد للموز، فصار طعم الموز في العصر العباسي، يشبه طعمه في طقشند، وفي داكار، أهذا تناص أدبي للحياة، أهذا تقليد للأغاني الجميلة في اللاوعي، أم هناك أصالة في كل طعم، ولو تشابه، أم حواسنا هي العمياء، عن رؤية ثراء التشابه، وثراء الاختلاف، اللهم أرني الأشياء كما هي!!
رحلة تشابه، واختلاف، أباً عن جد، وهكذا سرقت غرائز الطفل، أي طفل، ما ضفرته، ملايين السنين، من خطة ذكية، خفية، مثل اللغز، يؤمن بها من يؤمن، ويلحد بها من يلحد، ولكنهم اشتركوا بأنها شاعرية الغموض، ومن محاسنها، كائن يسمى “الوراثة”، ومن محاسنها أيضاً، كائن يسمى (التطور)، والطفرة. فلنعد، لحديثنا عن السرقات الأدبية الأصيلة، تلكم السرقات التي تحمد السارق والمسروق، معاً، وتغني (للوراثة والترقي)، فالأرض لمن يفلحها، فهو أحق الناس بها، وكان ماركيز أحق الناس بالسحر الشرقي العجيب!!.
الشعور لا ينسى، عوالم الباطن لا تنسى، أقدم الذكريات، العقل الحادث قد ينسى، ولكن خزانة اللاشعور، مثل دولاب لا تصله يد النسيان، وفي حال “الكتابة”، ينفتح اللاشعور، والشعور، وينثال دفق من كتابة وسيل من تعبير، ونهر من حوادث، وذكريات، وقراءات، قد لا يحس بها الكاتب، لأنها اندلقت من قعر الذاكرة، وتخضبت وتزواجت، هناك، مع أحداث أقدم منها، أو أحداث في تلكم الأغوار السحيقة (ما النسيان؟ إن لم يكن أهمال وقائع حدثت)، واتخذت شكلاً، وسلالةً جديدةً، كأنها بلا أصل، ولا فصل، كما يتراءى في البدء، ولكن مع التفرس، تظهر السلالات، أهناك: شيء بلا أصل، ولا فصل، أليست قوانين المادة الصارمة (المادة لا تفنى، ولا تستحدث)، تسري على الأدب، وعلى الفعل، والتعبير الإنساني، في سائر وقائع حياته، فالهايدروجين، يحال في قلب الشمس لعنصر أوكسجين، وكلور، وينسى أنه هايدوجين أبد الدهر، يبدو أصيلاً، وفي ثوبه تقليد ما، ويأتي السؤال: عن الناقة المجربة، التي خاف رجل أن تعدي ناقته، فقيل له، الناقة الأولى، من عاداها، حتى العدوى، مجهولة المدى، أين الصورة الأولى، أم الأمر تناص كوني، لا نعرف الأصل الذي نقلده، أن الصورة داخلنا، كما يقول أفلاطون (المثل الأعلى، المخبوء فينا)، كل الإجابات تشبه غموض الأسئلة، وحياءها.
عبر أمد عظيم، ودهر دهير، فهل غادر الشعراء متردم؟ فهل يكتب الكتاب اليوم، لما حكاه وحواء؟ ويد الشك تطال آدم نفسه، كيف عبر، وحكى لأمنا الأولى، الجميلة حواء، أكان يصغي لفؤاده، الغني، بحكايات الجنة الأولى، ووقائع العرش والفرش؟ أنحن، نصغي للجنة والفرودس والنار، حين نحكي، تقليداً لآدم الأول، فينا؟ (الهندسة الوراثية أثبتت ضمور الحيوات والتجارب القديمة في غرائز الإنسان) وآدم يصغي للعرش، الذي هوى منه، ولكن لا شعوره مثخن بكل خطوة خطاها في عشب لا يموت، وحقول تغني، وسحب تنشد، الحكايات في القلب، لا تموت، ولا تستحدث، ولكنها تتقلب في صور داخلية في رحم المخيلة البشرية.
(ما أشبه الليلة بالبارحة)، حتى الليالي، أدمنت التذكر، أيعتبر التقليد هو تذكر، ولكنه تذكر كامل، لا ينسى لحظة، فيعود الماضي هو الحاضر، وكأننا يا زيد لا رحنا، ولا جئنا، الديكاميرون، تلكم الحكايات، تشبه في صياغتها ليالي العرب، ألف ليلة، وألف ليلة بأسماء فارسية وهندية (شهزاد، شهريار، خاتون)، كأن الأدب يعري الهويات القاصرة، ويغمز بتشابه الفطرة، فأميرة الحكي الإنساني شهرزاد، سحرت الكون كله، السنوات الغابرة، والسنوات التي ستصحو في الغد، وتأتي بفضول لمقام “الحاضر”، كأن الحاضر هو المسرح الذي يمضي الماضي لداره، بعد أن تفرج عليه، ثم يترك الكراسي شاغرة للمستقبل، فهو “الأصل والفصل، أي الحاضر”، فلم نلوثه بالماضي؟ أو حلم الغد؟ أم هو كلاهما؟ تلكم أسئلة الأدب، قديمه، وعريقه، وحديثه، الحكاية، كالنظرية وكالقانون.
***
كنت أقرأ في “الحب في زمن الكولير وأنا فتى في الثانوي العام، إنه لا يوزع نظراته بالتساوي، هذا ما يفعله ماركيز، لهذا امتعض القلب في البدء، فقد نشأت علاقة، ومن أول سبعة أسطر، مع اللاجئ الأنتيلي (جيري سان مور)، وهذا الحب المبكر، سببه، بل أسبابه، ولع سان مور بالشطرنج، والسبب الثاني، أنه لاجئ، والسبب الأساسي، هو (عذابات الذكرى)، فالفتى كل ماضيه، عبارة عن وحش يطارده حتى أفق الغد، لم نجرِ خلف الكتاب كما يريد هو، وليس كما نريد نحن؟ كنت أحسب القراءة هكذا، أن يطيع الكاتب خيالي الفتى، الصغير، وغضبت من ماركيز، كنت أحسبه حراً، هو الآخر، حتى علمت بعد حين، أن هناك “قدراً درامياً”، يحكمه هو الآخر، بلا حول أو قوة.
لم قتلته عزيزي ماركيز؟!
أقصد الكولونيل في (مائة عام من العزلة). حكى ماركيز أنه بكى ساعتين لقتله أحد شخوصه. كان بمقدروك، أن تجعله يعيش، عاماً أو بعض عام، بل بمقدروك أن تنفخ فيه الروح مثل نوح، بل يخلد، هل الإلهام جرى بك هنا وهناك، بعيداً عنه، أم تخلصت منه، كي تتفرغ لفلورنتيو، (الهامش والمركز)، تباً!!، هذا الصراع، حتى في النصوص، أتكتب بعقلك أم قلبك، (فالقلب كالشمس، لا ينسى شيئاً على الإطلاق)، أم تميل للإثارة، كنحر النساء وتويجات الزهور، أم كنت تحت تأثير سلطان اللاشعور، فأملى عليك خطابة (يا لك من أسير لموهبته)، يقال بأن (نسَّاكي الهند لهم القدرة على التحكم في عالم اللاشعور، في ضربات القلب، وتسريح الشعر بلا مشط)، شفاء ذاتي، فاللاشعور، صار شعورياً، كحركة اليد.. (هل قمت بتقليدهم، كي لا يسقط شيء سقط متاع).. حتى روح الدودة، تحلم بالإنسان الكامل، من هوان حياتها، وكي تقرأ شكسبير، وتسعد بمذاق الشعر، بدلاً عن مذاق العشب المر.
أم خفت أن تطول الرواية، إن تطرقت لكل شخوصها، ولكنك (تضع الحياة بين قوسين)، كقشرة موز، تحيط بثمرته الجميلة، أساور بمعصم، فالحياة دخلت هذا النص الجميل، كما أدخل الطوفان شعب نوح، وهكذا انطلقت (الحب في زمن الكوليرا)، تحمل على ظهرها ما تبقى من أحياء، من طوفان الكوليرا، رفعنا علم النكبة، ولا حمامة ترصد اليابسة، (أليست الأشياء الرخوة خير من اليابسة)، نحن نثق بالبحر أكثر من الأسماك، وأكثر من اليابسة، فلندم في البحر، هو أمنا الأولى، وخلقنا من الماء كل شيء حي، حتى الشعر.
445 صفحة، حقل أخضر، ألم تُصَبْ بالإنهاك، بفتور العاطفة، بالتكلف، بالتبلد، وكأنها مكتوبة بنفس واحد. فترة لم يتخللها نوم أو استراحة أو قوت (أتأكل الملائكة، أحس بأنك كنت ملاكاً شاعرياً، ولكنك ملاك مرئي، وذو شارب كث)، أم أنك تكسر عادة الملائكة، وتسير في شوارع كولمبيا والمكسيك، وتتزوج من نساء الأرض (مرسيدس). يقال بأن جبريل (جاء في شكل بدوي، شديد سواد الشعر، وشديد بياض الثياب، ولا أثر لسفر عليه).
لا أشك أنك كتبتها في ساعة واحدة، بل أقل، ولكن في وقت خاص، أشبه بوقت الحلم (يقال بأن الأحلام تحدث في جزء من ثوان، أو دقائق تمر كشريط بسرعة الضوء)، وحين تحكي في عوالم اليقظة، خارج النوم، تحتاج لسنوات، وسنوات، فما أكثر الحيوات، وطرائقها، وزمنها الخاص.
حزن الفتى، لأن ماركيز ألقى نظرة سريعة على (سان مور)، ثم مضى لشخوص أخرى، أقل إثارة منه، كما يرى الفتى، أو كما يقول له هذيانه، ولكن ليس هذا ديستوفيسكي، أو فوكنر، كي يصور لك كل شيء أيها الفتى، كي تملأ فراغاً عريضاً بقريتك الساكنة كالقبور، يمكنك أن تجد ضالتك، في (دون كيشوت)، فسرفانتس يحكي عن دون كيشوت، ودي كيشتوت يحكي عن راعٍ، والراعي يحكي عن فارس وتابعه، يدعيان تحرير العالم من الظلم، أحدهما يركب حصاناً نحيفاً، وبيده سيف خشب، والآخر يركب حماراً سميناً، ولا يجيد سوى الإصغاء، والتسليم لهذيان سيده العظيم، فامضِ له، إن كنت تريد زخرفة وقت فراغك العظيم، إلى سيدة الحكي، الأميرة شهرزاد.
في عوالم ماركيز، تحس بأنك عشت هذا الواقع، أو قرأته، أو حلمت به، ولا فرق بين هذا الثالوث، “الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا”. الحياة تعلن كل يوم أنها غريبة، غامضة، أكثر من الأمس، كأننا نكتشف غربتنا الشاعرية كل يوم، كأننا نكتشف دفء رحم بلا ضفاف، يغذي بحبه السري الخيال والذاكرة البشرية، في عشرة تحس بأن أحلام الناس، وأقلامهم تحكي عنك، “أنت بطل المسرح”، تلكم القضية الخاسرة اليوم في أضابير الفكر والسياسة، هي أس الأدب والفنون، هي تنصيب “الفرد/القارئ/المتلقي” كبطل عظيم، كذات عظيمة، أهذا هو أس التشابه الداخلي، بين القارئ، والمقروء، والقراءة؟.
بين شخوصه تتعجب ذاكرة النسيان فيك؟ أين سمعت هذا؟ متى؟ من فم حبوبتي، من حداء قافلة في صحارى الشرق؟ أهو ذاكرة للحلم والخيال الجانح، ثم يهمس لي خيالي، شخوصه سمعها من أميرة الحكي، الأميرة شهرزاد، فأسرع للمكتبة، وأغرق في الليالي “الكلومبية”.
***
قراءة ألف ليلة وليلة، بل قراءات، لا تنتهي، مثل نهاية الأرقام، إن كان للأرقام نهاية، ولكن شبح ماركيز فراشة زاهية، ملولة، تحلق من زهرة لأخرى (بين حكايات شهرزاد)، ويجري السرد بصورة حلزونية، ونحو الأعلى دوماً، نحو الإثارة والجاذبية السماوية المقدسة. إعصار أخضر، يطفو بالأشياء، حتى الجبال تبدو كفلينة حقيرة الوزن، تشعر بأنه كان يصغي مع شهريار، في ذات الخيمة الملكية، وفي ذات السجاد الأحمر، والبخور العماني.
لا يشبه ديستوفسكي، عالماً كميائياً عجوزاً، يمسك شخصياته بيده المعروقة، ثم يضعها تحت شريحة المايكروسكوب، مثل قطرة دم مصابة بالملاريا والحب والهوان، ثم يشرح الجسد، والخطوات والأحلام، بصبر الناسك، والعالم معاً، فهو مثل ذبابة، تحوم وتلف حول هدفها، متجاهلة تهديد القارئ، تذب وتؤب، وماركيز (غراب ذكي)، نفور، متربص، لا يأتي على غرة، لا تقارن بينهم، (فالأشياء كلها لا تتشابه)، أحيانا ينسى ماركيز شخصياته (ذكر ذلك في مقال له)، ينسى أبناءه، خالق قاسٍ، يخلق (ثم يصم أذنيه، ويغمض عينيه لشخوصه)، تئن الأرض، وتلوذ سماء ماركيز بالصمت، مخلوق سقط سهواً من ذاكرة الآلهة، استفاد من ألف ليلة وليلة، أكثر من أهلها (الكوني، وغائب طعمة، وغالب هالسا)، حيث الأميرة تجلس في خلوتها، كسولة، ريانة، تأكل الحب بكسل، وبشبع، وترمي بذرته، فتصيب البذرة قلب جنِّيٍ صغير، فتقتله، فتثور أمه الجِنِيَّة الكبيرة، ويجري ما يجري، مما لا يمكن تصوره، إلا في ألف ليلة وليلية، وأدب ماركيز، سرق وبجدارة مناخات التداخل بين الواقع والخيال، والذاكرة والاستشراف، وسَطَا على ليالٍ هندية وفارسية وبغدادية، خير سلف، لخير خلف، بل (حوار غلب شيخو، باقتدار، ومعاصرة)، يميل للمبالغات، كشيوخ وأمراء الدولة العباسية والأموية (أعطى الفرزدق خمسين ألف بعير محملة بالذهب، وعشرة آلاف إبل محمولة بالياقوت، نظير قصيدة مدح، فطوفان نوح، كان سببه دموع فلورنيتيو).
أتحب سرفانتس، لأنه يتحدث عن الرجل وهيئته، وعن قلبه وجوائشه، وعن حذائه وضحاياه، من الحشرات والنمل، وعن النمل وقوتها من السكر، وعن السكر وبلورة طمعه من الطين الصلصال، وعن الطين وهوانه وعظمته.. أتريد أن يمتد طرف الرواية للوراء والخلف، كي توازي نهر الزمن، ولكن من وصل للرقم الأخير في سلسلة الأرقام؟ أعتى ميزانية لإله الحرب في العالم لم تصل لذلك.. أهناك رقم أخير، بعد أن تتوقف الأرقام؟ (كم يسخر الإطلاق من خيالاتنا، وذاكرتنا؟)…
حين تنتهي الأرقام ماذا بعدها؟ حين ينتهي الفضاء، ماذا بعده؟..
كل شيء ممكن مع ماركيز، فحين تكسر حبة فول سوداني، في نصوصه، تجد بداخلها جبلاً، وتطير منها فراشة مذعورة، وخلفها أسد يزأر، جائع، كل هذه الأشياء. جزء من أحشاء حبة الفول السوداني، والباقي، والشاغر من بطن الفولة يحتله المكان المطلق، الذي تبحث عنه التلسكوبات والأقمار الصناعية، وهو مخبوء في حبة فول.. الحروف السوداء لقلمه، تحمل كل هذا الهذيان الجميل، المثير..نذكر الفتى، عبارة (تفيض البحار بدموعي) قالها العاشق، ألم نقل بأنه وريث شعري للحلم الكوني، والخيال الخلاق.
حين فرغت من الرواية، ووضعتها تحت مخدتي شعرت، بل أدركت، بأنني قد خرجت من الجنة للتو، بكل إطلاقها، وجبروتها الجميل، ورأيت الملائكة تملأ الأثير حولي، في زخم مع النسيم، أعجب ما يكون، من قال إن القراءة لا تفضي إلى السكر؟ من؟!..
ولأن للفتى، فراغاً قروياً عظيماً، كان يحب ألف ليلة، وبدائع الزهور في وقائع الدهور، فقد شاهد، فقد شاهدت بأمي عيني، كيف يقفز اللص العظيم ماركيز، من فوق سور الكتب القديمة، والملاحم الإنسانية، وكيف يسرق العظيم، جزءاً عزيزاً، من بذر حكايته، من شرقنا الحبيب، فحكاية الغجر والمغناطسي، الذي سحر ماكندو، وحكاية الفتاة التي يطول شعرها، صورة طبق الأصل، من كتاب وقائع الدهور (أن في بحر الهند جبلاً، إذا اقتربت السفن من هذا الجبل، تناثرت مسامير الحديد التي فيها جميعاً، وتأتي لتلتصق بهذا الجبل، حجر المغناطيس)(2)..
حكاية البنت التي يطول شعرها، يحكي ابن أياس (أن هناك مغارة بها رجال ونساء، ماتوا قبل دهور طويلة، وهناك امرأة على حجرها طفل ترضعه، وذكر أن أهل تلك الناحية، القريبين من المغارة، يكسونهم الثياب، ويحلقون رؤوسهم، ويقلمون أظافرهم، وهم عظام عليها جلود، ولا أرواح عليها) (3)…
ثم تلك الرياح، التي تقلع الشجر، وتحلق بالأبقار، كأكياس النايلو، وبقايا الجرائد، فقد ذكر عالم الإرصاد الجوي، أبو عبد الله بن زكريا القزويني، في القرن السابع الهجري 605 هـ (فتحدث بسيل ريح مستديرة، تشبه منارة، وتلف ذيلها كلب، ورفعته، والكلب ينبح في الهواء)، من كتاب: عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات، فصل (الرياح ودورانها، وكرة الماء)(4).
ماركيز، بطل الإرث الكوني، وارث للعقل والقلب الكوني، طوبى له، ولنا، بعقل وثاب، يدرك التناص، ويبتكر، من الإرث، نضارة، كما فعل مع الجميلات النائمات، (فهل غادر الشعراء من متردم، أم هل عرفت الدار بعد توهم).. التاريخ لولبي، الإنسان واحد، ولكن زاوية الرؤية، هي البكر، (ما جئت لأهدم، ولكن لأضع لبنة)، (ذكر ماركيز، وبورخيس)، أن كتاب (ألف وليلة ولية)، في موضع قريب من سرير النوم، من أجل شهرزاد، أميرة الحكي الكوني.
كما أن تحليق شمسه، التي سرقتها الرياح، في الهواء، يماثل تحليق ريمديوس، وذوبانها في الأثير.
ومن أرق التناص، والتأسي، كتاب (الجميلات النائمات) للياباني ياسوناري كاواباتا، وذكر غانياتي الحزينات، للعظيم ماركيز، والذي يجسد الثقافة الكونية، واحتفائه بتراثنا، أكثر منا، فقد حكى في “عشت لأروي”، بأنه عاش بين الكتب، ولا نسيان في لا شعور بني آدم، لكن هناك مخاضاً متجدداً، ويعود السبت بعد الجمعة، وتغرب الشمس، وفي ذات الوقت، تشرق في بلدان أخرى.
ــــــــــــــــــ
هوامش:
1. كتاب (فن الكتابة)، تعاليم شعراء الصين، ص 112 توني بارنستون/وتشاوبينغ.
2. كتاب: بدائع الزهور، في وقائع الدهور، أبن إياس. باب ذكر أخبار الجبال.
3. كتاب: بدائع الزهور، في وقائع الدهور، ص 31.
4. كتاب: عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات، فصل الرياح ودورانها.
5. حكاية شمسة (حكاية الليلة والثلاثة والثلاثين في المائة الخامسة)، ألف ليلة وليلة.
6. حكاية حج الراعي للكنز، ألف ليلة (الخميائي)، الزهير، ومقدمة الخميائي بعد مرور أربعين عاماً على نشره. كويلهو.