الجمعة، 9 يناير 2015

آلام ظهر حادة رواية بطلها حذاء




أعاد القاص والروائي السوداني عبد الغني كرم الله كتابة قصته القصيرة "آلام ظهر حادة"، التي نشرها عام 2005 ضمن مجموعة قصصية لتصدر قبل أيام في صورة رواية، بعد أن أدهش سابقا النقاد بنشر القصة في شكل فصول متعددة حتى ارتبكوا في تصنيفها.
وعبد الغني كرم الله صوت سردي ظهر في الساحة الثقافية منذ سنوات كقاص صاحب رؤيا فكرية وفلسفية مختلفة، إذ يعتبر من أكثر الأصوات المعاصرة تميزا، وهو ينتمي إلى جيل التسعينيات.
يقول كرم الله للجزيرة نت إن فكرة تحويل قصته القصيرة إلى رواية ظلت تراوده طويلا مع وجود فصول كان قد كتبها ولم ينشرها.
والمدهش أن بطل الرواية حذاء عاش كإنسان في رمزية تشي بإظهار حركة المجتمع وتمثلاته الاجتماعية والسياسية والثقافية وتقاطعات الهوية مع استشراف المستقبل عبر حركة الحذاء اليومية داخل تلافيف المجتمع ودورانه في الشوارع والأمكنة باحثا عن "تموقعه" في زمان يموج بالصراعات والمتغيرات.
كرم الله صوت سردي ظهر منذ سنوات كصاحب رؤية فكرية وفلسفية (الجزيرة)
سرد الحذاء
يعتبر الحذاء في التراث رمزا لحظ صاحبه، إذ إن حذاء الطمبوري ظل ملازما له ولحركته في الحياة حتى تخلص منه. ويقول كرم الله على لسان الحذاء "في ركن قصي من الغرفة تم إلقائي وكأني لم أستبسل وأدافع بشجاعة عن سعادة وسلامة الأرجل البشرية".
وتستمر رحلة الحذاء في الأمكنة والأزمنة وهي تقرأ في سيرة ذاتية لصاحبها، إذ يقول الحذاء "لأول مرة أحب أرجل طيفور فقد جرى قدرها كما أحب وأشتهي أن نلعب أنا وأختي الكرة الجليدية".
وأوضح الكاتب في الرواية أن "أخته" هي البقرة، حيث تخرج منها السيور والجلود لصناعة الحذاء. ويشير إلى هوية الحذاء من ذات البقرة الأم -"بقرة الأنقسنا"- التي بيعت وذبحت في "سوق أم ضبان" قبيل خمس سنوات.
والإشارة إلى "الأنقسنا" هي إشارة إلى "السلطنة الزرقاء" ومشروع الهوية السودانية المتمثلة في لقاء "عرب القواسمة" مع "الفونج" وتحالف "الفونج والعبدلاب"، والذي نتج عنه إقامة "مملكة الفونج"، والتي استمرت حتى الاستعمار التركي في عشرينيات القرن الـ19.
أما "أم ضبان" أو "أم ضوا بان" فهي إشارة إلى المكون الصوفي للشخصية السودانية، إذ تعتبر المنطقة من أكبر مناطق تحفيظ القرآن ووجود المتصوفة ورمزيتهم في السودان.

ميرغني: "أنسنة" الأشياء تقنية أتاحت لكرم الله أن يبرز فلسفته ورؤاه في الحياة(الجزيرة)
وحول رؤيته التي أراد أن يبثها من خلال ثقب حذاء الكتابة، قال كرم الله للجزيرة نت "أحببت أن أصور أسئلة وآلام الشباب ورؤيتهم وتخيلهم ومعايشتهم لتعنت الحاضر والماضي وجبروته". وأضاف أن هذا الحذاء في حراكه يبحث عن الحرية، وهو يمشي عبر قدم بشرية قد لا توافقه في أحلامه وطموحاته، بل قد تقف عائقا أمام انعتاقه من القدم".
جدل الكتابة
يقول الناقد عامر محمد أحمد إن الصعوبة تكمن في تحويل قصة قصيرة إلى رواية إلا إذا كانت الرؤيا مكتملة عند الكاتب.
ويضيف أن الرواية تختصر إلى قصة قصيرة من خلال الإحاطة بكل تفاصيلها. ويشير إلى أن عبد الغني استطاع أن يرسم برمزية هائلة حياة الحذاء وسيرته وسيوره، ومن خلال ثقبه نرى أن الاحتجاج بالكتابة قد يخفي البطل والرمز والمخلص، والتحول إلى صورة عبثية سافرة.
ويرى الدكتور عز الدين ميرغني أن الرواية استخدمت تقنية الترميز العيني، وهو استنطاق الأشياء وجعلها تتحاور وتتجادل.
وقال ميرغني إن "أنسنة" الأشياء تقنية أتاحت لكرم الله أن يبرز فلسفته ورؤاه في الحياة، وهي فكرة مشبعة بالفكر الصوفي، قديمه وحديثه، حيث يبرز في الرواية الجانب الإنساني والجمالي في أفكاره.
وأضاف عز الدين أن الرواية فيها روح جديدة وتجريب حديث في كتابة "الرواية الفكرة"، وهي ما يمكن أن نسميه "الواقعية الصوفية الجديدة"، وهي مدرسة يمكن أن تستفيد من الفكر الصوفي بإيجابياته وأفكاره التي تتوافق مع العصر الحديث.
محمد نجيب محمد عل

الخميس، 8 يناير 2015

اللص العظيم، اللص الجميل ماركيز!


gabooo

في البدء
(إن النفس لا تفقد من مضمونها شيئاً، لا يوجد شيء اسمه نسيان. كل إحساس، وكل تجربة، وكل خبرة، وكل عاطفة مهما بلغت من الهوان والتفاهة لا تفنى ولا تستحدث، وكل أسرار قلوبنا ووجداننا غير قابلة للاندثار، كل ما في الأمر أنها تنطمس تحت سطح الوعي، وتتراكم في عقلنا الباطن لتظهر مرة أخرى في أشكال جديدة).
كارل يونج/عالم نفسي


 التناص قدراً
ثمة ثلاث طرق للسرقة:
اللص الوقح يسرق الكلمات، ولص يسرق الفكرة، ولص مبدع، لا يترك أثراً لسرقته، (1) فهي تناص، وروح بيت عنترة، عشيق عبلة (هل غادر الشعراء من متردم، أم هل عرفت الدار بعد توهم).. كما سرق البشر، صورتهم، من جدهم الأكبر، آدم، فحدث أكبر “تناص” جيني، ذات الوجه، والملامح، والشعور، والحيرة، من جيل لجيل، بل ذات مكر قابيل وهابيل، يتجلى في حروب اليوم، في تقليد آخر للماضي.. وكأن الحاضر، مرآة الماضي، وليست حلم المستقبل، ومن قال الماضي كله جاف؟، ولا وزن لقصائده الدافئة؟، أيكون الفرح العظيم أن يطير الإنسان بجناحي ماض خلوق ومستقبل سعيد، (ما أكثر الأخيلة لحل الإشكال، لدى الشعراء، والفلاسفة، .. والحكام) الأشياء أسيرة نشيد العودة، يتكرر، الغروب والشروق، الشهور تمضي وتأتي، بذات الأسماء (يناير، فبراير، مايو، ديسمبر، … يناير فبراير،)، وكذا الأيام، يا له من تناص كوني، يضمر بجوفه سراً ما، نغماً ما، فليس التناص، والتقليد، حصراً على قبيل الأدب، بل سمة حياة، حيوان، وبشر، وإنسان، بل نجوم ومجرات، وقع حافر على حافر، ومن سار على الدرب وصل، أين نصل؟ ومن نقلد؟ أنقلد آدم؟ وآدم من قلد؟.. أقصد آدم الحكي الأول، كي نفضح السرقات العظيمة، السرقات الجميلة، فالأميرة شهرزاد، والتي سرقت الحكايات المعاصرة، أغلب سحرها، وحبكتها، هي الأخرى، أ ولدت بلا أم أو أب؟. الطبيعة لا تعترف بهذه الاستحالة، سوى في الحكايات، أخلقت ذاتها، بيدها لا بيد أبيها الوزير، وأمها الغائبة تحت الخمية، ألم تكن الحكايات العربية، هي إرث الفرس والهند، والعرب؟، يردد القلب، صادقاً:
الناس من جهة التمثيل أكفاء، فالأب آدم والأم حواء
وإن كان في أصلهم شيء يفاخرون به، فالطين والماء.
ولكن الطين والماء يدخل فيها حتى النبات، ذلك الكائن الحي، الأخضر، والذي يعيش بلا أرجل، بل ساق وحيدة، لا يفارقه وطنه، ويموت واقفاً، هو الآخر يقتفي أثر أبيه وجده، وقع حافر على حافر، تناص أخضر، فقد سرق الموز الحالي، مذاق طعمه، من براعم موز قديم، ضارب في أديم الأرض الرطبة، سنين عدداً، تخيرت جذوره من قوت الأرض تلكم الرائحة، والمذاق الفريد للموز، فصار طعم الموز في العصر العباسي، يشبه طعمه في طقشند، وفي داكار، أهذا تناص أدبي للحياة، أهذا تقليد للأغاني الجميلة في اللاوعي، أم هناك أصالة في كل طعم، ولو تشابه، أم حواسنا هي العمياء، عن رؤية ثراء التشابه، وثراء الاختلاف، اللهم أرني الأشياء كما هي!!
رحلة تشابه، واختلاف، أباً عن جد، وهكذا سرقت غرائز الطفل، أي طفل، ما ضفرته، ملايين السنين، من خطة ذكية، خفية، مثل اللغز، يؤمن بها من يؤمن، ويلحد بها من يلحد، ولكنهم اشتركوا بأنها شاعرية الغموض، ومن محاسنها، كائن يسمى “الوراثة”، ومن محاسنها أيضاً، كائن يسمى (التطور)، والطفرة. فلنعد، لحديثنا عن السرقات الأدبية الأصيلة، تلكم السرقات التي تحمد السارق والمسروق، معاً، وتغني (للوراثة والترقي)، فالأرض لمن يفلحها، فهو أحق الناس بها، وكان ماركيز أحق الناس بالسحر الشرقي العجيب!!.
الشعور لا ينسى، عوالم الباطن لا تنسى، أقدم الذكريات، العقل الحادث قد ينسى، ولكن خزانة اللاشعور، مثل دولاب لا تصله يد النسيان، وفي حال “الكتابة”، ينفتح اللاشعور، والشعور، وينثال دفق من كتابة وسيل من تعبير، ونهر من حوادث، وذكريات، وقراءات، قد لا يحس بها الكاتب، لأنها اندلقت من قعر الذاكرة، وتخضبت وتزواجت، هناك، مع أحداث أقدم منها، أو أحداث في تلكم الأغوار السحيقة (ما النسيان؟ إن لم يكن أهمال وقائع حدثت)، واتخذت شكلاً، وسلالةً جديدةً، كأنها بلا أصل، ولا فصل، كما يتراءى في البدء، ولكن مع التفرس، تظهر السلالات، أهناك: شيء بلا أصل، ولا فصل، أليست قوانين المادة الصارمة (المادة لا تفنى، ولا تستحدث)، تسري على الأدب، وعلى الفعل، والتعبير الإنساني، في سائر وقائع حياته، فالهايدروجين، يحال في قلب الشمس لعنصر أوكسجين، وكلور، وينسى أنه هايدوجين أبد الدهر، يبدو أصيلاً، وفي ثوبه تقليد ما، ويأتي السؤال: عن الناقة المجربة، التي خاف رجل أن تعدي ناقته، فقيل له، الناقة الأولى، من عاداها، حتى العدوى، مجهولة المدى، أين الصورة الأولى، أم الأمر تناص كوني، لا نعرف الأصل الذي نقلده، أن الصورة داخلنا، كما يقول أفلاطون (المثل الأعلى، المخبوء فينا)، كل الإجابات تشبه غموض الأسئلة، وحياءها.
عبر أمد عظيم، ودهر دهير، فهل غادر الشعراء متردم؟ فهل يكتب الكتاب اليوم، لما حكاه وحواء؟ ويد الشك تطال آدم نفسه، كيف عبر، وحكى لأمنا الأولى، الجميلة حواء، أكان يصغي لفؤاده، الغني، بحكايات الجنة الأولى، ووقائع العرش والفرش؟ أنحن، نصغي للجنة والفرودس والنار، حين نحكي، تقليداً لآدم الأول، فينا؟ (الهندسة الوراثية أثبتت ضمور الحيوات والتجارب القديمة في غرائز الإنسان) وآدم يصغي للعرش، الذي هوى منه، ولكن لا شعوره مثخن بكل خطوة خطاها في عشب لا يموت، وحقول تغني، وسحب تنشد، الحكايات في القلب، لا تموت، ولا تستحدث، ولكنها تتقلب في صور داخلية في رحم المخيلة البشرية.
(ما أشبه الليلة بالبارحة)، حتى الليالي، أدمنت التذكر، أيعتبر التقليد هو تذكر، ولكنه تذكر كامل، لا ينسى لحظة، فيعود الماضي هو الحاضر، وكأننا يا زيد لا رحنا، ولا جئنا، الديكاميرون، تلكم الحكايات، تشبه في صياغتها ليالي العرب، ألف ليلة، وألف ليلة بأسماء فارسية وهندية (شهزاد، شهريار، خاتون)، كأن الأدب يعري الهويات القاصرة، ويغمز بتشابه الفطرة، فأميرة الحكي الإنساني شهرزاد، سحرت الكون كله، السنوات الغابرة، والسنوات التي ستصحو في الغد، وتأتي بفضول لمقام “الحاضر”، كأن الحاضر هو المسرح الذي يمضي الماضي لداره، بعد أن تفرج عليه، ثم يترك الكراسي شاغرة للمستقبل، فهو “الأصل والفصل، أي الحاضر”، فلم نلوثه بالماضي؟ أو حلم الغد؟ أم هو كلاهما؟ تلكم أسئلة الأدب، قديمه، وعريقه، وحديثه، الحكاية، كالنظرية وكالقانون.
***
كنت أقرأ في “الحب في زمن الكولير وأنا فتى في الثانوي العام، إنه لا يوزع نظراته بالتساوي، هذا ما يفعله ماركيز، لهذا امتعض القلب في البدء، فقد نشأت علاقة، ومن أول سبعة أسطر، مع اللاجئ الأنتيلي (جيري سان مور)، وهذا الحب المبكر، سببه، بل أسبابه، ولع سان مور بالشطرنج، والسبب الثاني، أنه لاجئ، والسبب الأساسي، هو (عذابات الذكرى)، فالفتى كل ماضيه، عبارة عن وحش يطارده حتى أفق الغد، لم نجرِ خلف الكتاب كما يريد هو، وليس كما نريد نحن؟ كنت أحسب القراءة هكذا، أن يطيع الكاتب خيالي الفتى، الصغير، وغضبت من ماركيز، كنت أحسبه حراً، هو الآخر، حتى علمت بعد حين، أن هناك “قدراً درامياً”، يحكمه هو الآخر، بلا حول أو قوة.
لم قتلته عزيزي ماركيز؟!
أقصد الكولونيل في (مائة عام من العزلة). حكى ماركيز أنه بكى ساعتين لقتله أحد شخوصه. كان بمقدروك، أن تجعله يعيش، عاماً أو بعض عام، بل بمقدروك أن تنفخ فيه الروح مثل نوح، بل يخلد، هل الإلهام جرى بك هنا وهناك، بعيداً عنه، أم تخلصت منه، كي تتفرغ لفلورنتيو، (الهامش والمركز)، تباً!!، هذا الصراع، حتى في النصوص، أتكتب بعقلك أم قلبك، (فالقلب كالشمس، لا ينسى شيئاً على الإطلاق)، أم تميل للإثارة، كنحر النساء وتويجات الزهور، أم كنت تحت تأثير سلطان اللاشعور، فأملى عليك خطابة (يا لك من أسير لموهبته)، يقال بأن (نسَّاكي الهند لهم القدرة على التحكم في عالم اللاشعور، في ضربات القلب، وتسريح الشعر بلا مشط)، شفاء ذاتي، فاللاشعور، صار شعورياً، كحركة اليد.. (هل قمت بتقليدهم، كي لا يسقط شيء سقط متاع).. حتى روح الدودة، تحلم بالإنسان الكامل، من هوان حياتها، وكي تقرأ شكسبير، وتسعد بمذاق الشعر، بدلاً عن مذاق العشب المر.
أم خفت أن تطول الرواية، إن تطرقت لكل شخوصها، ولكنك (تضع الحياة بين قوسين)، كقشرة موز، تحيط بثمرته الجميلة، أساور بمعصم، فالحياة دخلت هذا النص الجميل، كما أدخل الطوفان شعب نوح، وهكذا انطلقت (الحب في زمن الكوليرا)، تحمل على ظهرها ما تبقى من أحياء، من طوفان الكوليرا، رفعنا علم النكبة، ولا حمامة ترصد اليابسة، (أليست الأشياء الرخوة خير من اليابسة)، نحن نثق بالبحر أكثر من الأسماك، وأكثر من اليابسة، فلندم في البحر، هو أمنا الأولى، وخلقنا من الماء كل شيء حي، حتى الشعر.
445 صفحة، حقل أخضر، ألم تُصَبْ بالإنهاك، بفتور العاطفة، بالتكلف، بالتبلد، وكأنها مكتوبة بنفس واحد. فترة لم يتخللها نوم أو استراحة أو قوت (أتأكل الملائكة، أحس بأنك كنت ملاكاً شاعرياً، ولكنك ملاك مرئي، وذو شارب كث)، أم أنك تكسر عادة الملائكة، وتسير في شوارع كولمبيا والمكسيك، وتتزوج من نساء الأرض (مرسيدس). يقال بأن جبريل (جاء في شكل بدوي، شديد سواد الشعر، وشديد بياض الثياب، ولا أثر لسفر عليه).
لا أشك أنك كتبتها في ساعة واحدة، بل أقل، ولكن في وقت خاص، أشبه بوقت الحلم (يقال بأن الأحلام تحدث في جزء من ثوان، أو دقائق تمر كشريط بسرعة الضوء)، وحين تحكي في عوالم اليقظة، خارج النوم، تحتاج لسنوات، وسنوات، فما أكثر الحيوات، وطرائقها، وزمنها الخاص.
حزن الفتى، لأن ماركيز ألقى نظرة سريعة على (سان مور)، ثم مضى لشخوص أخرى، أقل إثارة منه، كما يرى الفتى، أو كما يقول له هذيانه، ولكن ليس هذا ديستوفيسكي، أو فوكنر، كي يصور لك كل شيء أيها الفتى، كي تملأ فراغاً عريضاً بقريتك الساكنة كالقبور، يمكنك أن تجد ضالتك، في (دون كيشوت)، فسرفانتس يحكي عن دون كيشوت، ودي كيشتوت يحكي عن راعٍ، والراعي يحكي عن فارس وتابعه، يدعيان تحرير العالم من الظلم، أحدهما يركب حصاناً نحيفاً، وبيده سيف خشب، والآخر يركب حماراً سميناً، ولا يجيد سوى الإصغاء، والتسليم لهذيان سيده العظيم، فامضِ له، إن كنت تريد زخرفة وقت فراغك العظيم، إلى سيدة الحكي، الأميرة شهرزاد.
في عوالم ماركيز، تحس بأنك عشت هذا الواقع، أو قرأته، أو حلمت به، ولا فرق بين هذا الثالوث، “الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا”. الحياة تعلن كل يوم أنها غريبة، غامضة، أكثر من الأمس، كأننا نكتشف غربتنا الشاعرية كل يوم، كأننا نكتشف دفء رحم بلا ضفاف، يغذي بحبه السري الخيال والذاكرة البشرية، في عشرة تحس بأن أحلام الناس، وأقلامهم تحكي عنك، “أنت بطل المسرح”، تلكم القضية الخاسرة اليوم في أضابير الفكر والسياسة، هي أس الأدب والفنون، هي تنصيب “الفرد/القارئ/المتلقي” كبطل عظيم، كذات عظيمة، أهذا هو أس التشابه الداخلي، بين القارئ، والمقروء، والقراءة؟.
بين شخوصه تتعجب ذاكرة النسيان فيك؟ أين سمعت هذا؟ متى؟ من فم حبوبتي، من حداء قافلة في صحارى الشرق؟ أهو ذاكرة للحلم والخيال الجانح، ثم يهمس لي خيالي، شخوصه سمعها من أميرة الحكي، الأميرة شهرزاد، فأسرع للمكتبة، وأغرق في الليالي “الكلومبية”.
***
قراءة ألف ليلة وليلة، بل قراءات، لا تنتهي، مثل نهاية الأرقام، إن كان للأرقام نهاية، ولكن شبح ماركيز فراشة زاهية، ملولة، تحلق من زهرة لأخرى (بين حكايات شهرزاد)، ويجري السرد بصورة حلزونية، ونحو الأعلى دوماً، نحو الإثارة والجاذبية السماوية المقدسة. إعصار أخضر، يطفو بالأشياء، حتى الجبال تبدو كفلينة حقيرة الوزن، تشعر بأنه كان يصغي مع شهريار، في ذات الخيمة الملكية، وفي ذات السجاد الأحمر، والبخور العماني.
لا يشبه ديستوفسكي، عالماً كميائياً عجوزاً، يمسك شخصياته بيده المعروقة، ثم يضعها تحت شريحة المايكروسكوب، مثل قطرة دم مصابة بالملاريا والحب والهوان، ثم يشرح الجسد، والخطوات والأحلام، بصبر الناسك، والعالم معاً، فهو مثل ذبابة، تحوم وتلف حول هدفها، متجاهلة تهديد القارئ، تذب وتؤب، وماركيز (غراب ذكي)، نفور، متربص، لا يأتي على غرة، لا تقارن بينهم، (فالأشياء كلها لا تتشابه)، أحيانا ينسى ماركيز شخصياته (ذكر ذلك في مقال له)، ينسى أبناءه، خالق قاسٍ، يخلق (ثم يصم أذنيه، ويغمض عينيه لشخوصه)، تئن الأرض، وتلوذ سماء ماركيز بالصمت، مخلوق سقط سهواً من ذاكرة الآلهة، استفاد من ألف ليلة وليلة، أكثر من أهلها (الكوني، وغائب طعمة، وغالب هالسا)، حيث الأميرة تجلس في خلوتها، كسولة، ريانة، تأكل الحب بكسل، وبشبع، وترمي بذرته، فتصيب البذرة قلب جنِّيٍ صغير، فتقتله، فتثور أمه الجِنِيَّة الكبيرة، ويجري ما يجري، مما لا يمكن تصوره، إلا في ألف ليلة وليلية، وأدب ماركيز، سرق وبجدارة مناخات التداخل بين الواقع والخيال، والذاكرة والاستشراف، وسَطَا على ليالٍ هندية وفارسية وبغدادية، خير سلف، لخير خلف، بل (حوار غلب شيخو، باقتدار، ومعاصرة)، يميل للمبالغات، كشيوخ وأمراء الدولة العباسية والأموية (أعطى الفرزدق خمسين ألف بعير محملة بالذهب، وعشرة آلاف إبل محمولة بالياقوت، نظير قصيدة مدح، فطوفان نوح، كان سببه دموع فلورنيتيو).
أتحب سرفانتس، لأنه يتحدث عن الرجل وهيئته، وعن قلبه وجوائشه، وعن حذائه وضحاياه، من الحشرات والنمل، وعن النمل وقوتها من السكر، وعن السكر وبلورة طمعه من الطين الصلصال، وعن الطين وهوانه وعظمته.. أتريد أن يمتد طرف الرواية للوراء والخلف، كي توازي نهر الزمن، ولكن من وصل للرقم الأخير في سلسلة الأرقام؟ أعتى ميزانية لإله الحرب في العالم لم تصل لذلك.. أهناك رقم أخير، بعد أن تتوقف الأرقام؟ (كم يسخر الإطلاق من خيالاتنا، وذاكرتنا؟)…
حين تنتهي الأرقام ماذا بعدها؟ حين ينتهي الفضاء، ماذا بعده؟..
كل شيء ممكن مع ماركيز، فحين تكسر حبة فول سوداني، في نصوصه، تجد بداخلها جبلاً، وتطير منها فراشة مذعورة، وخلفها أسد يزأر، جائع، كل هذه الأشياء. جزء من أحشاء حبة الفول السوداني، والباقي، والشاغر من بطن الفولة يحتله المكان المطلق، الذي تبحث عنه التلسكوبات والأقمار الصناعية، وهو مخبوء في حبة فول.. الحروف السوداء لقلمه، تحمل كل هذا الهذيان الجميل، المثير..نذكر الفتى، عبارة (تفيض البحار بدموعي) قالها العاشق، ألم نقل بأنه وريث شعري للحلم الكوني، والخيال الخلاق.
حين فرغت من الرواية، ووضعتها تحت مخدتي شعرت، بل أدركت، بأنني قد خرجت من الجنة للتو، بكل إطلاقها، وجبروتها الجميل، ورأيت الملائكة تملأ الأثير حولي، في زخم مع النسيم، أعجب ما يكون، من قال إن القراءة لا تفضي إلى السكر؟ من؟!..
ولأن للفتى، فراغاً قروياً عظيماً، كان يحب ألف ليلة، وبدائع الزهور في وقائع الدهور، فقد شاهد، فقد شاهدت بأمي عيني، كيف يقفز اللص العظيم ماركيز، من فوق سور الكتب القديمة، والملاحم الإنسانية، وكيف يسرق العظيم، جزءاً عزيزاً، من بذر حكايته، من شرقنا الحبيب، فحكاية الغجر والمغناطسي، الذي سحر ماكندو، وحكاية الفتاة التي يطول شعرها، صورة طبق الأصل، من كتاب وقائع الدهور (أن في بحر الهند جبلاً، إذا اقتربت السفن من هذا الجبل، تناثرت مسامير الحديد التي فيها جميعاً، وتأتي لتلتصق بهذا الجبل، حجر المغناطيس)(2)..
حكاية البنت التي يطول شعرها، يحكي ابن أياس (أن هناك مغارة بها رجال ونساء، ماتوا قبل دهور طويلة، وهناك امرأة على حجرها طفل ترضعه، وذكر أن أهل تلك الناحية، القريبين من المغارة، يكسونهم الثياب، ويحلقون رؤوسهم، ويقلمون أظافرهم، وهم عظام عليها جلود، ولا أرواح عليها) (3)…
ثم تلك الرياح، التي تقلع الشجر، وتحلق بالأبقار، كأكياس النايلو، وبقايا الجرائد، فقد ذكر عالم الإرصاد الجوي، أبو عبد الله بن زكريا القزويني، في القرن السابع الهجري 605 هـ (فتحدث بسيل ريح مستديرة، تشبه منارة، وتلف ذيلها كلب، ورفعته، والكلب ينبح في الهواء)، من كتاب: عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات، فصل (الرياح ودورانها، وكرة الماء)(4).
ماركيز، بطل الإرث الكوني، وارث للعقل والقلب الكوني، طوبى له، ولنا، بعقل وثاب، يدرك التناص، ويبتكر، من الإرث، نضارة، كما فعل مع الجميلات النائمات، (فهل غادر الشعراء من متردم، أم هل عرفت الدار بعد توهم).. التاريخ لولبي، الإنسان واحد، ولكن زاوية الرؤية، هي البكر، (ما جئت لأهدم، ولكن لأضع لبنة)، (ذكر ماركيز، وبورخيس)، أن كتاب (ألف وليلة ولية)، في موضع قريب من سرير النوم، من أجل شهرزاد، أميرة الحكي الكوني.
كما أن تحليق شمسه، التي سرقتها الرياح، في الهواء، يماثل تحليق ريمديوس، وذوبانها في الأثير.
ومن أرق التناص، والتأسي، كتاب (الجميلات النائمات) للياباني ياسوناري كاواباتا، وذكر غانياتي الحزينات، للعظيم ماركيز، والذي يجسد الثقافة الكونية، واحتفائه بتراثنا، أكثر منا، فقد حكى في “عشت لأروي”، بأنه عاش بين الكتب، ولا نسيان في لا شعور بني آدم، لكن هناك مخاضاً متجدداً، ويعود السبت بعد الجمعة، وتغرب الشمس، وفي ذات الوقت، تشرق في بلدان أخرى.
ــــــــــــــــــ
هوامش:
1. كتاب (فن الكتابة)، تعاليم شعراء الصين، ص 112 توني بارنستون/وتشاوبينغ.
2. كتاب: بدائع الزهور، في وقائع الدهور، أبن إياس. باب ذكر أخبار الجبال.
3. كتاب: بدائع الزهور، في وقائع الدهور، ص 31.
4. كتاب: عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات، فصل الرياح ودورانها.
5. حكاية شمسة (حكاية الليلة والثلاثة والثلاثين في المائة الخامسة)، ألف ليلة وليلة.
6. حكاية حج الراعي للكنز، ألف ليلة (الخميائي)، الزهير، ومقدمة الخميائي بعد مرور أربعين عاماً على نشره. كويلهو.

الاثنين، 2 نوفمبر 2009

البراد فوق الكعبة!!


إهداء: إلى الظلال، والأنوار،.التي غذت حياتنا،...كالأم!!..

بعد أن تغمض الشمس عينها العوراء عند الغروب، وقد أحمرت من بؤس ما رأت على ظهر الأرض، وهي تنفث آخر زفير لها، دم برتقالي، شاعري، حزين، حنن الأفق، ، يحتل ظل الأرض، المسمى مجازا الليل، أركان القرية، ويمسح ببشاورته البيوت والحوائط، حتى المئذنة العالية وصلها، وأخفاها في جيبه الضخم، كل ابواب وشبابيك القرية يلونها الليل بريشته، وبضربه فرشاة واحدة يحيلها للون رمادي قاتم، وأسود، لا نشاز في ألوانه، ولن تجد بقعة قاتمة وأخرى فاتحة، ما أتقن ريشته، كم كان ماهراً، وسريعا في إخفاء قريتي كلها، أتحدى من يغلبه في الدسوسية، يبدو طفلا شقيا وماكر..

وحدها النجوم لم تصل إليها ريشته ..

أشعلت أمي الفانوس في التكل، تسرب ضوء منه عبر الطاقة، فكشف شريط مستطيل من الحوش، وألتمعت عيون الدجاج بطيف ازرق وبنفسجي، إثار قشعريرة خوف صغيرة، وسريعة في بدني، وتسرب جزء من الضوء من الباب، وعكس صلب أمي، وهي منحنية، ضخما، وكأنه صلب فاطنة الصومالية،، فضحكنا انا واختي حتى كدنا ان نقع على قفانا، أمي دوما تفرحنا، حتى بظلها الكاريكاتيري..

خرجت أمي من التكل، وهي تحمل الفانوس بيدها اليسرى، وقد خلق حولها هالة دائرية، كمسيح متجول، نذر نفسه لكشف قناع الظلام عن الترابيز والكانون والسراير، والملايات، ممن الضوء، الفانوس أم أمي؟، فتعود الألوان للشبابيك، والعناقريب، والمخدات، ولكن بصورة أقرب للحلم، فأين الفانوس من الشمس، وأين وهج القلب من إحصاء العقل!!..

دخلت أمي الأوضة، فملأ الليل الحوش في رمشة عين، لا أدري اين يختفي الظلام، ويعود بهذه السرعة، واين يمضي، وهو بهذه الضخامة، فقد غطى القرية كلها، والخلاء، والسماء، وماوراء ذلك، من مساحات، حين احاول تخيلها، أحس بهوان، هوااااااااااااااااان، حتى تمنيت أن أكون أسرع من الضوء، بحيث لو تسابقنا، أكون أنا في الظلمة وهو يجري خلفي، وارى حد الظلمة والنور..

وحين علمت "بعيد حين"، أن الكون يتمدد، إلى يوم الناس هذا، تمنيت أن أرى الحد بين نهايته، وذلك الخلاء الذي يتمدد فيه، إليس هو كون ايضا..

تقدم الشعاع الفاتر أمي، وهي تخرج من الاوضة، وبيدها كبابي، وصينية لشاي المساء، ثم اجتازت عنقريبي وعنقريب اختي، حتى جلست شمالنا، والاوضة جنوبنا..

وضعت امي الكانون، والصينية والكبابي، ثم اشعلت الفحم، ووضعت البراد فوق الكانون، ثم جلست فوق البنبر صابرة، راضية، لا أدري فيما يغني وجدانها الآن..

انا واختي كنا نرى كل ذلك على الحائط الطيني للاوضة، كنا نضحك من رسومات الظل لأمي والبراد، والكبابي، لم تترك الظلال شئ لم تسخر منه، وكأنها تلميذ نجيب لشارلي شابلن..وفجأة اتخذ الكانون شكل الكعبة المشرفة، "هي .. هي"، شكل معكب جميل على الحائط، وبصورة مكعبة، وذات الابعاد، والمساحات للكعبة المشرفة، وذات اللون الاسود،

صرخنا، أنا، وأختي في وقت واحد (الكعبة الكعبة)، لشدة اتقان الظل رسم شكل الكعبة، وكأنه رسمها في عتمة الليل مئات المرات، وكأنه حج مع أبي، وحج مع أمي، وحج مع علي ودالسالم، ورأى الكعبة، عشرات المرات، واختزنها في عقله، ورسمها بتلك الدقة المتناهية، في ظلمة الليل....

كانت امي تحرك الفحم فوق رأس الكعبة، وقد اشتعل جيدا، وبصورة شاعرية، لهب برتقالي وازرق بشكل ورق شجر الليمون، ورق من نار ونور، يتلوى من فحمة لأخرى، مثل طرح فوق رؤس نساء يولولن، لرحيل فارس قبيلة،.. ثم وضعت أمي البراد فوق اللهب، فوق الكانون

صرخنا أنا وأختي معا، ونحن ننظر للحائط ، "للشاشة الطينية".

(البراد فوق الكعبة، البراد فوق الكعبة)!!..

نظرت أمي إلينا، وقالت..

بس.. مجانين...

بغته ظهرت بطة فوق الحائط، لم تكن سوى ظلال يد أختي الماكرة، هزت البطة راسها تعجبا من الكعبة والبراد، مضت البطة ببطء نحو البراد، وحين همت بالشراب منه في الحائط، صاحت امي من النبر،: لا ياسعدية بتحرقي منقار البطة، البراد حار..

ضحكنا على أمي، وأدخلت سعدية يدها تحت الملاءة، وتلاشت البطة من الحائط، كم يطيع المخلوق الخالق، بقصد، أو بدون قصد، كما أطاعت البطة رسغ أختي، وأصابعها الماكرة..

شربنا الشاي، الكباية دافئة في يدي، والليل اسود كشعر "آمنة"، وأنزلت امي البراد من سقف الكعبة..

فرشت امي المصلاية، لصلاة العشاء، صحنا أنا وأختي لأمي:

يمه يمه القبلة كدي..كدي..

أشرنا للكعبة الصغيرة التي تزين الحائط..

مصمصت امي شفتيها، وهي تهزء رأسها بهدوء، وتعجبَ!!

ثم شرعت في الصلاة، وفي قلبها رضى عجيب، لله، الذي اصبغ لعيالها سينما صامتة، "أبيض وأسود" على وجه الزبالة، وهي مسدلة على الحائط الطيني..

فيما ظللنا انا واختي نرقص وننطط من البراد والكعبة وفاطنة الصومالية وامي ورائحة الشاي المقنن، وأكتشاف قبلة ثالثة، وحلاوة الليل العجيبة!!..

الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

في طفولتي



في طفولتي، كنت، ولا أزال، نحيفا، قبيحا، وحققت بعض الفلاح المدرسي، رغم إهمالي، وبغضي لسجن الفصول، وعشقي للحرية العظمى "الفراغ"، حيث أكون "لنفسي، وليس غيري، حين استحممت في يومي الأول للمدرسة، في الفجر الباكر، بكيت من قسوة الصابون وهو يدخل عيوني، وأمي تصيح بي "غمض غمض"، كيف أغمض؟ وهناك عصافير بيضاء، مقبلة من النهر، وتمضي للشمال، وهناك عنزة تحك جلدها بالحائط، كيف أغلق عيني عن كرنفال عظيم، ولو طرفة عين، تبا للصابون، بكيت بحرقة، ليس من مذاق الصابون الحارق في عيني فقط، ولكن، لأني لم أرى سرب من الرهو، وهو يصيح فوق الدار، يصيح لي، كي أسافر، وأطير بعين خيالي معه..


ليت الله، جعل عيوننا مثل الدجاج، كل على حده، كي نرى يسار ويمين، ولا نتلفت حين نقطع الشارع، أو نعلب الكرة، وكي أرى بعيني اليسرى، حين تحمم أمي اليمنى، بل ليته جعل لنا ثلاث عيون، وأخرى في الجهبة، ولكن قد يبدو الوجه قبيحا؟ بمقدور الله ان يجعله جميله، حتى ولو العيون جانبية، وثالثة في قلب الجهبة،، أليس هو الذي جعل المر مرا، والحلو حلوا، بل السم، الذي نخافه، يجري كالدم، في لسان الثعبان، والعقرب، بكل قبحها، تضاجع أنثاها، بصبوة، لا يسبرها الشعر!!.


مضيت للمدرسة، برداء وقيمص ازرق، والعطر يفوح مني، مثل الفضول،، وكراسات بيضاء، من غير سوء، تملأ شنطتي الدمورية، وحين رن الجرس، اتسعت عيوني، فرحة ودهشة، وهي تدخل فصل، منظم الكراسي، وتتقدمه سبورة سوداء، مستطيلة، ولكني بهت، من أول يوم، من أول حصة، من أول دقيقة، إنه سجن..


مناهج باهتة، جافة، كنت أحسبها تندهش حين ترى الدودة، تطوي رأسها وذيلها معا، ثم تفرهما وهي تسعى لعشبة، أو ظل، أليست ذكية!!، وجميلة؟، وناعمة؟، ولكن المناهج كانت جافة، مثل حجر في فمي، وليس حلاوة "حربة"، لم تحرك هذه الدودة فيها ساكن، كما ان قريتي، وأبقارها الجميلة، وحليبها، وقرونها، تلك القرون التي لم تولد معها، حين كانت صغيرة، ولكنها نبتت من رأسها، كما كما تنبت أعشاب السعدة، ولكن من لحم، لم تثير في المناهج أي عجب؟!


كل الحصص، مملة، كاذبة، حتى إصرار الموج على قضم شاطئ النيل الأزرق، والطمي الذي يأتي إلينا، ناعما، رخوا، كريما، من أعالى الجبال الحبشية، سقط سهوا، هو الآخر، من تعجب المناهج، ولم لايستطيع قضم الشاطي، أو أن يكف عن الحركة، بل الرقص الأبدي، كما ان هناك سر ما، في الكون، فيني، فيكم، حدسي يقر بذلك، لم تلمسه هذه المناهج، أبدا، فهي لا تقر بالحدس، مثل قلبي!!...


بل تريد، أن تصبني، كمن يحاول صب فيل، في جسم نملة، تحب الحرص، والتوفير، أهذا كل اللغز،؟ أهذا كل شأنك يا مناهج..


فكنت أذهب في عطلة الصيف الطويلة، إلى الخرطوم، لأخي الأكبر، بل أبي، فقد كان فارق السن كبيرا!!..


كان ابي يحب النساء، كسنة "نبوية"، كما يقول، وتزوج، ثلاث، في فترات متباعدة، حتى صار أخي الأكبر، من أمي الأولى "الزنبية"، بمثابة أبي، أنا الأصغر، بعد رحيل أبي، وللحق كان أبي يحب الطيب، والصلاة، لإكمال ذلك الثالوث النبوي، وللحق رغم ان حكم الوقت كان معه، وكنا نحس بأن لنا ثلاث أمهات، رغم مرارة فقدانه، حين يكون مسافر مع الأخريات، أحس، أنا وأختي الصغيرة، باننا، لسنا وحدنا، في ذات قلبه، وفي هذا، ما يجعل الزوجة الواحده، هي فطرة الحياة، ومبتغاها الأصيل، (كانت لقلبي أهواء مفرقة، فأستجمعت منذ رأتك العين أهوائي)، هكذا يكون التوحيد، في السماء، لله، وفي الأرض للمرأة، للزوجة !!..


كنت صديقا للطين، انحت عوالمي من الماعز، والخراف، والأفيال، واللواري، وكانت أصواتها تخرج من لساني كما هي، سواء كان بوري لوري سعد، حين تعترضه بقرة الشمة، أو نباح كلب ابراهيم ود كيم، لكل الحمير التي تسعى في الفجر للمشروع الزراعي، والاغرب، كانت عيون كل حيوانتي، بما فيها بني آدم، من حصى صغيرة، كبدية، ألصقها على الرأس، أو تحت الأذن، لأصنامي الطينية، التي ظللت أعبد سحرها، وجمالها وهي تجف، وتسعد عيني، كما تسعد قلبي، بالثناء المستطاب من أخوتي، وجيراني (والله شيطان، فنان كبير)، فيثمل قلبي، بهذا الثناء، وأحس بجزء من كياني، تعويضا، لغياب أبي المبكر، وسفر أخوتي الكبار، كيتم قسري آخر، للدراسة بالخرطوم، وبورسودان، وأحس بالتهميش، لم؟ لا مدراس، أو مكتبة، بقريتي البسيطة، لم؟، وهي تمنح الخرطوم كل يوم عشرات من اللواري، والبكاسي، والبصات المحملة بالجرجير، والطماطم، والبصل، واللبن، وبيض الدجاج، والبرسيم...


ولم أحس بأن ركوب الحمير، مهارة، وتوازن خلاق، إلا حين أتى ابن اختي، وهو يكبرني بعامين، من الخرطوم للقرية، فهوى من ظهر الحمار، فصرنا نضحك عليه، وهو يرتجف، ويصرخ بأعلى صوته، ويمترجح يمنى، ويسرى، في حمار يسير بوداعة، ونحن كنا نركب يسرى ويمنى، وبالجنب، والخلف، أفانين من الامتطاء، بل وتحتك جبل من شولات الذرة، في طريقنا للطاحونة، في قرية مجاورة، 3 كيلو ونصف، أهذه مهارة،؟ عجبى، أينطبق علينا قول الحكيم (والعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول)، ناهيك عن مهارات أخر، كالسباحة، والبناء، وتسلق سقف الصالون، كالقرد، وحصد العشب، والنوم تحت قبة زرقاء، مرصعة بنجوم بعيدة، بعيدة، فتحس بأنس، وبهوان عظيم. أليست هذه منح، فما أجمل "الضلال" بملاءة الليل، الليل، وسره الغريب!!..


ولكن حيرني تمثال (اليسع)، الطيني، حين خلقته، كان اليسع صاحب الطابونة، له كرش تتدلى أمامه، كقدم ثالثة، ضخمة، تكاد تلمس الأرض، وحين خلقت له تمثال طيني، كاد يهوي، على بطنه، لأنه أرجله نحيفة (رقاق)، وأنى لي أن أكذب، فرجيله نحاف، ولا أدري لليوم لم لا يسقط اليسع في مشيته، مثل تمثالي الطيني...


كأني امدح عيشي، كأني أقدح عيشي الأول، لست أدري، مثل الليل، تبدو ذاكرة الأيام، ودفق الحياة، اللاإرادي، من ارحام تدفع، لقبور تبلع، بلا حول أو قوى، سوى الاستسلام لأمر غريب، يد خفية، تختار لك زمان الميلاد، ومكانه، وأم وأب، وسرب لا يوصف من الحتميات، الأزلية، حتى الوعي، والجفاء، والامتعاض، وما يتراءى، شأن ذاتي، يغرق في تلكم الأقدار القديمة، وكفى حكيم المعرة، رسولا، لنا (وهل يأبق الانسان من ملك ربه، ويخرج من ارض له وسماء) فتبدو، كل أفعالنا، تحركها، كدمي، غرائز، وشهوات، وطموح،كامن، كمون النار، في مستصغر الشرر، حتى جدي المتنبي، أتعب الاجساد، بالنفوس الكبار، وما النفس، سوى ذلك اللامرئي، الذي يسوق الجسد، لما يريد، ويبغي، فنرى رجالا، يدخلون الفلوات، والسجون، ولم تكن حياتهم، كلها، سوى تلبية، لذلك النداء البعيد، الغريب، العجيب، الفطري، الكامن في النفس!!..


أخي الأكبر، شقيقي، من أبي، كان يقطن بري، امتداد ناصر، وكنت امضي لقضاء العطلة الصيفية، معه،، وهو انجب بنات فقط، حينها، وليس له ولد، واطرب لذلك، لرؤية اخي، وبناته، وعوالم الخرطوم، فكان أكثر جلوسي في عتبة البيت، مقابل بري الدراسية، ومدرسة قرنفلي، ونادي بري الرياضي، والمطار، ومن السعد، أن صف من المدراس، كانت تمر بالفسحة الكبيرة، والتي لا تملك شكلا معينا، امام دار أخي، فكانت عيني تتكحل يوميا، برؤية عشرات من طالبات المدراس المختلفة، والملابس المختلفة، والمشية المختلفة، والسمات المختلفة، فأي كنز، أعظم من هذا، لمن تقوم حياته على الفرجة، والفرجة!


هاهن، على مقربة مني سعبة بنات، في طريقهن لمدرسة السلمابي، لكل منهن، مشيتها، سمتها، هالتها، ضحكتها، حركاتها وهي تناقش، يقفن، لم؟ ثم يتحركن، ثم تجري واحدة من الأخرى، ثم ينظرن لفتى مر قربهن، ثم؟ أهناك أعجب، وأسحر من الفرجة، على الحياة، بلى الحياة،الحياة، ثم يسرن، وكأنهن لسن مع بعض، كل سرحت في عوالمها الخاصة، تلك الخواطر المستكنة في الأعماق حين تطفو فجأة، بلا أذن، وتتركك وحيدا، وأنت في قلب الجماعة..


وكانت العتبة عالمي الأبهى، أراقب الناس، وإقلاع الطائرات الساحر، وأحفظ عن ظهر قلب أي طائرة هولندية أقعلت، وأثوبية نزلت، ومصرية تحلق في سماء الخرطوم، كما كنت أحفظ اسماء البصات الزرقاء، المتهالكة، لامتداد ناصر، وبري عن ظهر قلب، مجرد أن أرى البص يحبو من بعيد، أصيح باسمه لنفسي، ويكون ما خمنت، كما كانت العتبة مسرحا لنساء ناصر، المسنات، وغيرهن، وهن في طريقهن لسوق أربعة الشهير، ببري المحس، أو مكتبة الملتقي للرجال، والصحافة، والايام، والاذاعة والتفلزيون، ولا شك بعد حين، كانت حواري بري، وناصر، وقاردن سيتي، مرتع طفولتي، ومغامراتي، في الفضول، والتحديق، والفرجة، كما كنت كثير التسكع بين أختي، وأخي، الأخرين، في محطة ستة، ومحطة ثمانية، وكان امتداد ناصر، بالنسبة لي، حي صغير، اقطعه (سيافي)، يوميا، أي من الشمال الغربي، للجنوب الشرقي، وبالعكس، طوال سنوات طفولتي، ومراهقتي، لذا تسكين في قاع النفس، حيوات، ومشاهد لا تحصى، ولا أدري لم ثبت في ذهني، منظر فتاة حلوة، تفتح الباب لسيارة أبيها، وهي نعسة، تلبس فستان نوم خفيف، وزاد من خفته ضوء السيارة، ومنظر السرير في الحوش، كأني تلصصت على لحظة حميمة، لأسرة جميلة المحيا، وخاصة الفتاة، التي كثيرا ما رأيتها، تختال في طريقها لمدرسة على السيد، الثانوية العامة..ولكني، لم أكن اتوقع أن اقع في حب، فتاة، لاتعرفني، ولا أعرفها، سوى أن الطريق يأتي بها كل يوم، وهي تلبس زي كبدي، رداء الثانوي العام حينها، مثلي، كنت في الثانوي العام بمدرسة العسيلات، وطرحة بيضاء، وشنطة جلدية سوداء، سعيدة، تداعب ظهرها كل صباح، وظهيرة، وتلبس حذاء ابيض، واسود، وزهري، مع أيام الأسبوع، وتسرح شعرها بطريقة واحدة في الصبح، مجرد كعكة، وعرف حصان، تظهرها الطرحة الشفافة، مثل النملي..


لم الخوف، لم التوتر، كنت اطرق لها الطريق، وكانت هناك هالة ما، تنطلق منها، وتشل تكفيري، وتعقلي، وتجعلني أتمنى أن اذوب في الاثير، حبا، وخوفا، واختباء.


كانت جميلة، وكانت غنية، وفي هذه المنح ما يشلني، ويهربني بالفطرة، كنت أخاف الجمال، أي فتاة جميلة، أرهب جانبها، وأخاف أن تهين ذاتي، أو تسخر مني، فأبتعدت عن الجمال، وغنيت له..


علاقتي مع أخي الأكبر، كانت غريبة، كان صامتا، ومن النوع الذي لا يعرف ان يعبر عن مشاعره، فلن تستطيع ان تعرف ما يجري بدواخله، أبدا، ولم افهمه إلا بعد حين، ولكن في طفولتي، كنت اضع برزخا بيني، وبينه، وكنت ارهب ان اجلس معه طويلا، فهالته اللامرئية، تجعلني متوثبا، محتشدا، رغم حبه لي، وتدليله، بكلمات ملاح (الحلبي، الشاطر)، وهلم جرا، فكانت الساعة معه، دهرا، لا يحصى، من العنت النفسي!!...


وشاء القدر، ان تكون هناك علاقة بين بنت أخي، وتلك الفتاة، علاقة دراسية، مدرسة واحدة، وفصل واحد، ما أعذب القدر، إنه ذكي، ولكنه غامض، ولا يشئ بإسراره، إلا بعد عنت، وتفكر، وتأمل، وتوفيق، وهكذا جرت الايام، والفتاة تزور بنت أختي، ومرات أكون سعيدا، بل شقيا، حين افتح الباب لطارق، ويكون الضيف هي، فتنشل أعصابي، واختبئ بطريقة سريعة خلف ضلفة الباب، وأنا أهذئ بكلميات ترحاب لا أدري نظمها، وترتيبها، ولكن على محياها، ترتسم ابتسامه، لا أقوى على تحليلها، أهي سخرية، أم فرح، أم تعجب، من فتى، يخاف فتاة، أيما خوف..


كنت احب الكمياء، وأحفظ الجدول الدوري عن ظهر قلب، وأحبه، لأنه يعني لي ان العناصر تنظم، بلا حول، أقوة، منها، في جدول حتمي، من المزايا، والقدرات، والصفات، مثل السلم الموسيقى، لا نغمة، تتجاوز حدها، وتأتلف، وتختلف، بأيقاع موزون، وهكذا كان الجدول الدوري، كل في فلك يسبحون، فلا الكلور سابق الهايدروجين، ولا الهايدروجين، يسبق الأكسجين، وما أعذب وأغرب علاقاتها مع بعض، تنفر من عناصر، وتحب عناصر، مثل علاقات الانسان باخيه الانسان، وتشتد علاقة، وتمتن، وتكون أخرى رخوة، كاليورانيم، المسكين، الذي استغل الانسان، رخاوة قوته الايونية، ففرقه أيدي سبا، قنبلة تهز وجدان الكون، من ذرة حقيرة، تستعضى على العين الشحمية روؤيتها، وتحسبونه هينا، وهو عظيم..


المهم، حبي للكمياء، استدرج لي فتاتي، مع أبنة أخي، لدروس عصرية، ليست مجانية، بل بمقدروي دفع دمي، من أجلها، فكانت الفسحة تكنس في العصرية، وترش بخرطوش أحمر، ذو خطوط بيضاء، يتلوى في الدار، ويرشها من الركن للركن، فهو يمتد من الحنفية قرب الباب الصغير، ولحوش النساء، خلف الدار، كما يمتد لآخر ركن في البيت، وراء الصالون، ويسقي هناك بعض الشجيرات، والزهور على الاصيص، كما كنت أفعل كل يوم، وأجد في ذلك متعة لا تقاس، وأنا أرسم بالخرطوم اسمها، واشم رائحة الطمي، تتسلل من أسمها، لا من الماء، فالاستحالة، كائن عادي، حين تنظر لي، بل حين أتخيلها تنظر لي، فأنا لا اقوى النظر إليها، على الإطلاق، تهزني طاقة ما، وتجعلني أشبه باللاكائن، بل مجرد ذبذبة لطيفة، هي انا، مثل الضوء، والطاقة المغناطسية، التي تشد القمر نحو الأرض!!..أخبرتني بنت أخي، بأنها غدا، سوف تأتي لدرس في الكمياء، فأهتز كياني، ولم أفرح، ولم أغضب، ولم اجد كلمة في اللغة العربية، رغم غرورها، تحكي حالي، وتصور انفعالي، ولكني لم أنوم، ولم أصحى، كنت اشبه برجل هاذئ، برجل محموم، لا يدري هل هو يهذي، أم يتألم، أم يتخيل، أم يتذكر، عوالم، تداخلت، في قلبي، وجسمي، حتى أشرقت الشمس، ومضيت متعبا للمدرسة، مثل رجل جاء من بورسودان بالقطار العادي، وظل يساهر، مدى الرحلة، ثلاث أيام، وهو في طريقه للبيت، من محطة السكة حديد، والنعاس يراوده، وأعظم أمنياته، سرير ناعم، وغرفة مظلمة..


كلما، أعود لشرح التكوين، القوالب اللامرئية، التي صبت فها حياتي، كي أسبر جزء من كياني، ، ولكن أحس بضلال أكثر، فأسرتي كما قلت تمتد لثلاث أمهات، هن الزنبية، وسعاد، وبنت المنى، وهي أمي ، ولكل منهن أولاد وبنات، وبصفتي أصغر الأسرة، فقد كانت حالتي أغرب كالاسطورة، فقد كنت ألعب مع ابناء اخواتي، الأكبر سنا، (كنت خالا)، ولكن أصغر من ابناء أختي، كما ان توزع (أمهاتي)، على ريف الجزيرة، وأخرى بالخرطوم، وثالثة شرق النيل، جعل الأسرة، حين تلتقي في الخرطوم لأمر، ما، عرس، سفر أحد، أو مرضة، يجعلك تقلب الطرف في التناقض، في الاشكال، والسحنات، وطرائق التربية، والهموم، واللهجات، حتى تعجب، أهذه كلها (شجرة كرم الله)، ويسرح الطرف لشجرة (آدم)، وتؤمن بالتعدد، من فرس وروم، وزنوج، إن كان حال شجرة أبي، هكذا، فلم اللوم، لوم التعدد، لبني آدم، في أشكالهم، وسحناتهم، ومعتقداتهم..




جزء من ذكريات صباح السبت


3 أكتوبر 2009م


قهوة كوستا




تعارف


تعارف، بل مجرد تعارف بسيط،

وهل تعرف النفس، "نفسها"، حتى تعرفها للناس؟..

ولكنها "العادة".. ففي برق كل خاطرة، يرف معنى جديد، عنك، وعن البيئة حولك، فأنى لي بالتعريف، في بيداء صيرورة لا تكف عن الصيرورة، ولكنه المجاز!.

ود حاجة بنت المنى، بت العوض عدلان، عملت في طفولتي (طالبا، ومزاعا، وراعي) وكنت غير مرغوب في حصة الدين، كثير الاسئلة عن "الله"، أما في حصة الجغرافيا، كنت التلميذ المدلل بحق، فكل الخرائط التي كانت تزين جدار سنة خامسة، (للسودان، والهلال الخصيب، والعالم)، كانت بأناملي الصغيرة... وخريطة (نهر النيل، من المنبع إلى المصب)، الملعقة فوق السبورة، كنت اسبوع كامل ارسم فيها، وعلى ضوء فانوس، ومحني على الارض (لا طربيزة، بل على تبركوة ابي، كنت ارسم)، (الجنى ده راكع ليهو ساعتين، قوم أملأ الابريق للعشا)، هكذا رآني خالي دفع الله، في عتمة الليل، وانا ارسم الخريطة، وللحق، (النيل يستحق السجود، والركوع، والافتتان)!!، توفي أبي مبكرا، فتوثقت علاقتي بالغيب، كان أبي هناك، وأمي هنا، فأي سعد هذا...

كنت متكاسلا، كي أمضي للبرميل في ركن الدار الوسيعة، كي أملا الأبريق لخالي، غرفت له من النيل المرسوم تحتي، حتى تبلل كمي، وصدري.

وفي (الثانوي العام)، كنا نحمل الطوب، في بناء دار (سعد، وجلي، أثرى اثرياء القرية)، كي نشتري مع ابن اختي "جماع" (الالغاز، واجاثا كريستي، ويوسف السباعي)...والبلح واللالوب، والنبق...

(ياجنى الموية الباردة دي من وين، انت مليت الابريق من الزير) هكذا صاح خالي، وهو جالس طرف العنقريب، يتوضأ بمهمل،

في الخرطوم القديمة، كنت احضر حصة، واغيب ثلاثة حصص، كي اتسكع في جامعة الخرطوم، ومكتباتها، وشارع النيل، ومستشفى العيون، (كان أعز اصدقائي طالب مسيحي)، وكان استاذ التربية الدينة يتصور بأني مسيحي، شكلي القمحي، قد يوحي بهذا، (كنت أحب سارتر، وطبعا المسيح)، ولاشك عبدالقادر الجيلاني، وغوثيته، التي يدندن فيها (لم أظهر في شئ كظهوري في الإنسان)، لاني كنت مؤمن بالإنسان، وبقدراته، وبسره، حدسي يقول ذلك..

(فوجئت أثناء الرسم، بدم يتسلل من الأعماق، ويغطي صحفة النهر)

أمتع لحظاتي حين اشاهد أخي الكبير وهو يرسم، تحت ظل الصالون الكبير، وأخي الاصغر منه وهو يكتب، أو ينحت، وحنان امي العظيم، لا يفارق أرنبه أنفي، أرنبة حروفي، تجاه كل الكون، كل الوجود، كل الأشياء، بلا فرز... حتى تصورت الإله أم عظيمة، مطلقة الحنان والجمال والكمال، تحب كل ابنائها، بلا فرز، و(القرد عند أمو غزال)، فانتفى التميز بين المخلوقات، على مستوى حنان أمي، والذي أسقطته على الإله في سمائه العظيمة، وهو كما كان (عصى الفهم، عصى التفسير)...

الأب من جهة السافل، بسيط، سافر مبكرا، ملاك الموت وهو مضيا معا، نحو ضفة النيل الشرقية، للنيل الأزرق، الذي يسقي يهود الحبش، ومتصوفة ابوحراز، ومسيحي سوبا القديمة، بحياد، وطيبة أصيلة، لا أدري متى وصل لهذا الحياد النبيل، وحرر نفسه من فتنة العصبية الغريزية، لهذا وذاك، لقد عمر كثيرا، بلى، النيل عاش طويلا، وأختمرت بأعماقه الرؤى والأفكار، وأتخذ السلوك النبيل، حياد مبارك، جعله يتفرج بمتعة، لا تسوسها الانانية، اللذجة.. أغبطه كثيرا....

الام شرق النيل، "ألم يدفن ابي قربها"، من العسيلات، صعيد السافل، سافرت له مطلع هذا العام، ياله من لقاء خفي، تم بينهما دون علمي.. ياله من لقاء بعد غيبة طويلة..

الاخوة، بين رسام،ومعلم، وشاعر، وما أكثر فشلهم... إسرة فاشلة بحق، في جمع القروش، والقوت، ولكن عشنا، طفولة عجيبة، ومسرات القراءة،والرسم، والنحت... بلى..

أما موطن الروح، فقد صور جز منه ابن العربي (رأى البرق شرقيا، فحن للشرق، ولو راه غربيا للحن للغرب، بأن الذي تهواه بين ضلوعكم، تقلبه الأنفاس جنبا، إلى جنب)،

هل قلت لكم، بأن الدم ملأ كمي أيضا، ي حين كنت أرسم في نهر النيل تحتي، فغرست يدي، ورفعت سمكة تتلوى من سن السنارة ، نزعتها، ورميت السنارة بعيدا، وبرفق وضعت السمكة في صفحة النهر، وهي تمد فمها، كطويلا، أمامها، مثل طفلة مقبلة على القبلة الأولى، (نهري مسالما، لا يغرق حتى الحصى)

كنت اشم رائحة الطمي تتسلل من الألوان التي تلطخ كفي الصغير؟..

وأغرق في تنشق رائحة النهر، جلود كل من تحمم فيه، أو توضأ، أو غرق، يالروعه الشم، روائح أجساد مسكونة بأوراح يهودية، ومسحية،وصوفية، وسرب آخر، من الظنون بالدنيا، وتلقباتها، وغموضها...

الجمعة، 9 أكتوبر 2009

من مجموعة (الام ظهر حادة) كلبة فاطمة. كيف قررت كلبة فاطمة إلغاء فزع الطابور الصباحي وحصة التسميع ؟!!




أي أعجوبة بعد هذه، كنت أهرب من مدرستي منذ الحصة الخامسة، وأتسلق شجرة نيم ضخمة بالسوق قبالة طابونة طيفور، ولم أكد ألتقط أنفاسي من مشقة تسلقها، حتى كان جاري، في الغصن المقابل حضرة الناظر!! وهو حتماً لم يتسلق الشجرة من أجلي، فقد كان يكفيه أن يصيح آمنا من ظل الشجرة المتسخ ببقايا نبق مبلول باللعاب، ومسروق، ومنغرس في التراب، ويسقط من عل، كما لو أن شجرة النيم تثمر نبقاً مأكولاً " أنزل يا ولد يا حمار .. أنت طالب ولا غراب" !!.


يبدو السوق، قبل الحدث الكبير، وخاصة إذا كنت متسلقاً شجرة النيم الكبيرة، مثلي ومثل الناظر، عبارة عن شارع وسيع، ضيقته البضاعة المفروشة على جانبية، أكوام من النبق، ذكرته في البدء لحاجة في نفس "مدثر"، وأكوام الطماطم والعيش والقلل، فيبدو الشارع وكأنه جدول متعرج صغير، هادئاً، الهدوء الذي يسبق صراخ الشحاذين والباعة وضجر الازدحام ومساومات الأسعار والتعارف، وخلو جيوب وامتلاء أخرى، وسرقة ثالثة ورابعة ويبدو شكله العام إنه قد توثب لحرب البيع والشراء الأزلية.


أما المدرسة، قبل الحدث السعيد، فتبدو من أي طائرة تمر، وهي نادراً ما تمر، حوشاً مستطيلاً، فصولاً متراصة، وميداناً جنوبي للطابور الصباحي، وشرقي للكرة الطائرة، ومزرعة صغيرة شمال الفصول، وتبدو المدرسة، من على ظهر حمار، عبارة عن سور متآكل، تحفه أشجار تمر الهندي والموسكيت، وباب سري لأمثالي المتأخرين في الحضور، والمبكرين في الإنصراف، كما تبدو المدرسة من داخل الفصول، عبارة عن أعداد هائلة من الطلاب، لايربط بينها الشكل أو الملبس أو الذكاء، بل شئ واحد أقوى من الرابطة الأيونية بين العناصر الكيماوية، وهو الخوف الجماعي العظيم من حضرة الناظر، ويلفها الصمت، وكأنها ثكنة عسكرية، ولو لمست هواء الفصل، بل الفصول، بل ساحة المدرسة، لوجدته حاراً مشبعاً بالخوف المنبعث من زفير مئات الرئات المذعورة، مناخ خانق، لا تترعرع فيه اتعس الجراثيم الطفيلية، التي قيض لها أن تعيش في أمعاء الفيلة .


أما السوق بعد الحدث السعيد، يبدو وكأن قنبلة ألقيت فيه، أو ريح صرصر من لحم ودم وكرش ونظارات داست على الأخضر واليابس، فالرواكيب قد أنهارت، والطماطم عفصت، أما المدرسة بعد هذا الحدث، فكأنها كرنفال فرح، فالطلاب يركضون بين الأشجار، ومشاغباتهم يتردد صداها بين الفصول، حتى أذن الناظر.


إن ما أقدمت عليه كلبة فاطمة يفوق الوصف والتصور، كسرت حاجزا كبير بيني، بل بيننا وبين الهرم الأكبر، حضرة الناظر، مدير مدرسة العسيلات بنين المتوسطة، حاجز أسمك وأعتى من سور الصين العظيم،، ما كان سيهدم ويتحطم مثل سد مأرب غير مأسوف عليه لو لا بلدوزر كلبه فاطمة، أنيابها الحادة الشريرة، من يتصور إن الناظر، بسمته، ووقاره، والخوف العميق منه، والمترسب في أعمق أعماق قلوبنا وعقولنا وعيوننا، قد ولى بلا رجعة، تلاشى مثل حلاوة قطن، أن ما قدمته لنا كلبه فاطمة يستوجب الشكر مدى الحياة، ومن الآن ولاحقاً لن يصيب صلبها شر من قبلنا، لا حجر ولا عصى، بل سنؤثرها على أنفسنا باللحمة والطعمية، وسنمسح بحنان بالغ على رأسها الصغير الشجاع، بل لو كان الأمر بأيدينا لنصبنا لها تمثالاً، مثل جاليلو ونيوتن وفراداي، الذين قدموا أجل التضحيات من أجل الحركة الطلابية.


وسأقص لكم المشهد، كما هو، لعن الله شاهد الزور، وسأنقل الواقعه كماهي، صورة طبق الأصل، ولو كان نباحها في لساني، وملامحها على وجهي، وسرعتها داخل سيقاني، لواصلت سك الناظر حتى آتي به من الجهة المقابلة إلى نفس المكان، ألم يقل لنا بأن الأرض كروية، البيان بالعمل، بالجري أمام كلبة هزيلة، تخيلته، وقد خرج جارياً من حدود السودان، وبعد بريهات خرجت الكلبة وراءه، ودخل صحاري تشاد، ومالي، وكأنه يجري في حوض من الصمغ، رجلاه أثقل من حجر الطاحونة، وسبح الاطلسي، عارياً فماتت الأسماك من سخونة جلده وعرقه، ورأته الروم والفرس، فضحك عليه بالسرياني والبرتقالي،، وتسلق مرعوباً جبال الانديز، فذابت من أنفاسه ثلوج القمة، كما تذوب كتلة الشحم في الطوة، فسالت حارة فائرة في حقول البن، فملأ الفقراء البراميل والكبابي من فيضانات القهوة الحارة، ولعن أصحاب مزارع البن ثقب الأوزون، وحتى يكون كلامه عن كروية الأرض لاحقا كلام يقين، فما أكثر الأكاذيب التي ملأ بها رؤوسنا وفضحتها سكة الكلبة، الناظر يجري بكل قوته من كلبه فاطمة، منظر قد يبدو شبه عادي، ولكن حين تتصور شكل الناظر، فسيبدو الحدث لك، مثل فيل يولي الأدبار مرعوبا، محاولا إخفاء جسمه الضخم خلف مؤخرة نملة، فالجسم المرعوب لا يعرف المنطق، وبأن الجبل أكبر من الإبرة، وبأن النبق والطماطم تؤكل، و لا تعفص بحذاء الناظر المعفر بروث البهائم والمرحاض، وبأنه من المسلمات، إن الكلب أسرع من صبيان بني آدم، ولكن لكل قانون استثناء، ولكل قاعدة شواذ، وإلا فما الداعي لأن يحتمي الناظر ببطيخة، بل شعرت بحيرة البطيخة وهي تسأل نفسها، كعادة كل المخلوقات المحزونة، وقد سال دمها الأحمر الحلو من خربشة مخالب الكلبة " لم خلقت، ليحتمي بها الناظر، أم لتستمتع بحياتها، أم لتؤكل كتحلية ؟" ليتكم كنتم معنا في الطابور الصباحي، لتقارنوا بين الصورتين، صورته أسداً يتبختر في عرينه، وصورته وهو يبحث في السوق عن بيضة دجاجة لينحشر فيها، ويزاحم السواسيو في رحمها الكروي الأبيض الضيق، وأقسم صادقاً، بحكم قشعريرة جسمي حين يقترب الناظر مني، بأن هذا السوسيو المحزون، لو قدر له أن يعيش بعد هذه المزاحمة، فلن ينبت له ريش ولو عاش عمر نوح، خطواته الموزونة في الطابور، ونظراته من خلف النظارة، يتطاير منها الشرر، حين ينظر إليك، تحس بتيار من أرواح قطط تتلوى وتلفظ أنفاسها في جسدك، وبأنك محصور في ركن ضيق محدقاً في مرزبة مسننة ستهشم رأسك، وكأنه مخلوق من طين خاص، يخلق منه المديرون والرؤساء والعساكر والمجرمين، طين لا يعرف النكتة والحنان ومسح رؤوس الايتام، طين لا يعرف الخوف، كانت حياته محسوبة، عبارة عن معادلة رياضية، إي تغير في طرف يخل بالطرف الأخر، خطواته ونظراته، صورة صارمة وبغيضة، يقشعر لها جلد وعيون وشنط وخطوات وكراسات الطلاب.


بعد الحدث السعيد، والأمور نسبية كما يقول مستر انشتاين، فالفصل جنة لمن يأتي من مكتب الناظر، وجهنم لمن يأتي من بيته، بعد نهاية الدوام، أو قبيل نهاية الدوام، فأنا، وتوخيا للحق، أهرب من الحصة الخامسة بالباب السري، فتحة مخبأة بشجر الموسكيت، إلى السوق، لسرقة النبق، وأتسلق شجرة النيم الضخمة حتى يمر الناظر، لأنه يخرج من الحصة الخامسة، مثلي، لشراء حاجيات البيت، فخرج الناظر كعادته لشراء حاجيات البيت، وفي السوق رأته كلبه فاطمة، كما ترى كل الخلق، ولكنه أثار فيها جوى، بحجم لحمه المكتنز النظيف المعطر، يا ترى هل أدركت الكلبة بحاسة الشم الحادة بأن الناظر هو سبب رشقها اليومي من قبلنا، ننفس المكبوت، وهذه الحجارة أصلاً موجهة نحو قفا الناظر، ولكن لخوفنا العاجز، اتجهت لصلب كلبه فاطمة، عينه على الفيل، ويطعن في ظله، فأرادت الكلبة أن تجتث سبب شقائها من الجذور، فالناظر أولى بالعداء، هكذا تقول الحكمة، وعلم النفس، مجرد أن وصل حضرة الناظر إلي السوق هجمت عليه الكلبة، أطلقت الكلبة نبحة عالية، وكأنها تنبه أهل السوق للكف عن البيع والشراء ومتابعة المسرحية التي جاءوا من أجلها، فلكل حيوان الحق في تضخيم اهتماماته، فأقشعر نظر الناظر، حين تيقن بأنه المقصود بهذا التهديد، وفي البداية كان يوزع نظراته بين الناس وبين الكلبة، كيف يجري ؟ والشارع يضج بالبشر، إنه لا يصلح إلا للبطء ، مزدحم بالخلق، وحتى تقطع الشارع عرضياً فقط، فإنك سوف تسمع ثلاث آذان للصلاة، وتتعرض لعشرة محاولات سرقة، أغلبها ليد دخلت جيبك عن طريق الخطأ نتيجة الزحمة، أو أدخل شخص رجله في شرابك إن كنت أفندياً، لذا وضع الناس قروشهم في مكان غريب، كما وضع الله فرج المرأة بين الرجلين، وربطوها بالسراويل، فالأجساد هنا تتلاحم، تلاحم العرايا في غرف النوم في عز الشتاء، في هذا الحشر جرى الناظر بصورة تحافظ على وقاره، وعلى قدسية الرأي العام، وكلما اقتربت الكلبة من رجليه، نسى جزءاً من الوجود المحيط، من الباعة والنساء والشماسة وأهل الحي، كانت الضحكات الساخرة تصل اذنيه، وتجرحه، ولكن كشرت الكلبة عن عداوة غير متوقعه، فأوصله الخوف حد الصفر، بين أن يضع للرأي العام بالاً، وبين انقاذ نفسه، وبأي طريقه وبأي أسلوب، خاطئ أم صواب، ردئ أم جيد، مضحك أم مثالي، أما أهل السوق، فالجائع نسى جوعه، والحرامي أجل شغله، والصعلوك همدت رغبته، فقد تأجل البيع والشراء، حتى يتفرجوا عليه، حتى ينسوا همومهم وغموهم للحظة صغيرة، توقفت حركة السوق الواقف والمنحني والجالس، وكأنهم في صوره فوتوغرافية بلا حراك، فقد استجد موضوع، حين يختل نظام الحياة الصارم الممل، تطرب النفوس، ما أحلى المفارقة، وخاصة إن كان بطلها ناظراً وقوراً وكلبه عجفاء، أما الناظر فقد اختفى الوجود من عينيه، انه لا يعرف أيسكه كلب أم كلبه، خرج عن الزمان والمكان، سوى هذا الكلب المكشر عنه أنيابه، أتجري من كلبه عجفاء يا مدير المدرسة، جري الفطرة، وليس جري التكلف، جري مياه الأمطار، وليس جري صنابير المياه، كنا نحس أن جسمه لا يعرف الخوف، هكذا خٌلق، جسم لا تعتريه سوى الصرامة والاحترام والخطوات الموزونة، في البدء كان يجري وهو خائف على صورته أن تهتز، فالميدان هو السوق، حيث النجار والخضرجي وبائعات الشاي، وقد كسر في ركضه كبابي الشائ وداس على كيمان الطماطم والعجور، خسائر فادحه لتجار بسطاء، أحس بأن الكلب هدم كل ما بناه، وبأن حياة جديدة رسمها الكلب، صحيح عنتر كتلو أعمى، وحين اقتربت منه الكلبة، فنى عن الجميع، لم يعد سوى كلبة فاغرة فاه، وناب حاد يود أن يغوص في فخذه الثمين، جسم عجوز مهدد بالعض والتمزيق، وروح مهدده، شعر بروحه، وبكيانه، بل بكل ذره فيه، نسى المدرسة وأولاده وهم الرزق، كل المخاوف والحياة استحالت إلى كلبة تهدد وجوده على ظهر البسيطة، كلبة كالظل، سوف يلاحقك طوال حياتك ياحضرة الناظر المحترم، حتى لو نجوت منه، هل ستنجو مما فعله بك أمام الخلق، كم عذبه هي الذاكرة، رائحة الأحداث تمتد عبر الزمن، وكأنها نهر لا مصب له، الألسن تخبر الأذان، والأذان تخبر الألسن، دواليك، جيل بعد جيل، هل تذكر هتلر وهبنقة، إنها غريزة الخلود، الحكايات تلد الحكايات، ستكون وصمة عار لأحفادك وأحفادهم، لقد غزت فضيحتك أيام المجهول البعيدة، شمس لا تكف عن الشروق، ولأول مره في حياته يرى أن الموت شئ بسيط ومباغت، كحقيقة مجسدة، وليس وهما يؤرق النفس، أنهمر العرق من كل عضلات ومسامات الجلد الخائفة المسرعة، وللحق توحد مع الخوف، لم يعد سوى خوف يملأ كيانه، وكأنه قالب خوف، تمنى أن يخرج بسرعته عن الزمان والمكان، أو أن يصحو فجأة، وكأن الحياة كابوس، حلم مزعج، كذبه، مرت برأسه شرائط حياته كلها كالبرق، بل ملايين الحيوات، لا خلاص من الكلبة سوى السرعة، حبل النجاة هي أن يسرع بكل قوته، ماهي السرعة؟ أهي حبل النجاة، أهي الابتعاد عن العدو فقط، إهي العجز عن المواجهة، أهي الاعتراف بكينونة الخوف الفطري، لقد تعجبت من سرعته، أين كانت هذه السرعة، كامنة في هذا الجسد المترهل العجوز، قنبلة من الجري كانت مخبأة خلف وقاره الكاذب، ولهذا خلق الله الأقدام في خلوة الرحم، طويلة ورفيعة ورشيقة، كي تركض، كي تقفز، سرعة كامنة في الأرجل، فانفجرت مدوية بسبب نباح الكلبة المسعور، طاقة إلهيه لحفظ الذات، وهل تسعفه سرعته المحدودة، ليت له سيقان الريح أو الضوء أو الخيال، بدأ يسرع الخطو، وكأنه حشد له كل ما قدر له في حياته من طاقة الجري، كانت سرعته أكبر من رجليه، وكأنه يطير، إنه الخوف الحقيقي، الخوف الذي يهدد حقيقة حياتك، وتجد نفسك بغتة، وبلا توقع، في مواجهة الموت.. الموت.. الموت، هذه الكلمة القديمة الحديثة، تقابلك كتجربة شخصية ماثلة، فيك، وليس في غيرك، كلمة بكر، لم يجربها جسمك بعد، إنها أكبر من الألم والخوف والانفعالات، إنها ذروة لا تبلغ وتعرف إلا بالتجربة، الموت يفتك بحياتك الكبيرة بيسر وببساطه، كم أكذوبة انت أيتها الحياة، جذوة واهنة تطفأ بأوهن نسيم، أهكذا يطرق الموت الباب، في أي لحظة غير متوقعة يريدها هو، وكأنه يكره ظاهرة الاستعداد، حتى بالنسبة له، لاشكل له ولا رائحة، ولاوجود، عدو غريب، مسكون بالمباغتة، أهكذا تسدل ستارة حياته الحافلة بالتربية والعلم، يموت وسط السوق، محروق الحشي، معفراً، مسكوكاً، خائفاً، معضوضاً في مؤخرته، والكلبة الهزيلة تشد من أزرها، وأي ضير ان ينتقل اللحم من جسم الناظر المكتنز إلى جلد الكلبة الضامرة، "العدالة قيمة عليا" شعار خلف مكتب الناظر، أحس الناظر بأشياء بكيانه كانت منسية، نائمة، أشياء مجردة بدأت تتجسد وتحس، قلبه الميت بين ضلوعه هب مذعوراً من كمية الدم المتدفقة نحوه والمليئة بالأكسجين، وكأنه يتنفس بفتحاته التسع، كانت رجله مهددة بالعض، أحس بكعب رجله، كما يحس بعينه، وبعضلاته وبفخذة وبساقيه وببطنه وشعره وسرته، وبأن الألم، هذا الكائن الغريب يدخل عليه من هذه الأبواب، أحس بأن الجسم هو الروح، حقاً هو الروح، روح خفيف يخاف ويفرح ويموت، وهل تموت سوى الروح ؟ لقد كسر في ركضه الجنوني الكاريكاتوري أواني الشاي لسعاد، ولم يقف ليعتذر لها، لا قانون ولا أخلاق مع الخوف، أستحال إلى كتلة هوجاء، فوضى من اللحم، مسكون بشيطان الخوف العظيم، بالأنانية الكبرى، احتمى بالشحاذين، وبالشجر وبالأطفال، لم يكن ينظر سوى لنفسه، تعرى، تنكر لكل الخطب الرنانة التي ملأ بها أذاننا في الطابور، التضحية.. الإيثار، نكران الذات، إي نكران للذات وأنت تحتمي بحليمة الهرمة العمياء من الكلبة المسعورة، وإي حكمة وأن تدوس بأرجلك المرعوبة على رأس مال سعاد الأرملة، لم أعد أصدق ما يقوله في الطابور والفصول، حتى كروية الأرض والجاذبية الأرضية، وقصيدة السماء الضحوك للشابي، فالأرض مكعبة، والجاذبية في رائحة العجور والنبق ووجه آمنة فقط، صارت موضع شك وارتياب عندي كل الاشياء التي ملأ بها رؤوسنا المكلومة، قطع الرقاب ولا قطع الأرزاق، إنني معجب بالناظر في هذا الوقت، تمنيت تقبيله، إنه حر، يكاد يكون حراً من كل القيود، أنه معذور، لو بكى، لو تعرى، لو كسر، لا تثريب عليه، كالعنب يحمل بداخله الخمر ولا يوبخ، تحول المشهد إلى كلبة وناظر، كلبة مسعورة وأرنب خائف مذعور، كلبة لم تترب على احترام الكبار، وتوقير حضرة الناظر، وأداء الواجب واحترام الرأي العام، وجدت ضالتها فيك، أغراه سمتك ووقارك، كلبة جائعة منسية، ليس في السوق قطعة عظم، لا كوش ولافضلات، إناس فقراء، موخراتهم مقفولة منذ عام، فما يدخل الفم لايكفي حاجة الجسم من الطاقة والصبر ومكابدة الحياة، فوجد في فخذ الناظر لحماً طرياً، مرت بالناظر أطياف الوداع، ملايين الصور، لأحياء وأموات، لأناس قابلهم في عشرة لا تتجاوز جزء الثانية، تذكر حتى رائحتهم، ملابسهم، هل جن، اختلط الحابل بالنابل، الذاكرة بالخيال، أيودع بيته وحياته للابد؟ هذيان المحتضر، أرتعش قلبه، نسى جميع الآراء والمعتقدات التي شب عليها، وألقى نظره بكر للوجود، كان يجري بأقصى سرعة، حتى بدت أرجلهما، أرجل الكلب والناظر، مثل مروحة في نمرة واحد، لا ترى سوى كره من الحديد، بل لو أعادو الجري بالتصوير البطئ لبدت مثل مروحة في نمرة واحد، وهو في ركضه رمى شنطته وكراسات الإملاء للفصل الرابع، فصلي، حتى يكون خفيفا، ولحقت بها الساعة والجزمة والبنطلون، يا ترى حين كان يتجول سابقاً، هل تصور بأنه سيقفز فوق كوم البطيخ المرتفع، وبأنه سيرشق كلبه فاطمة بخبز طيفور الحار، وبأنه سوف يلف حول سبيل السوق أربعة عشرة مرة لاهثاً، وقد أطلقنا على السبيل "كعبة الناظر" فمن غيره يطوف حول السبيل 14 مرة لاهثاً وكأنه كعبة يرجو مساعدتها.


وانتهى الحدث السعيد، مصائب قوم عند قوم فوائد، بعد أن تسلق الناظر شجرة النيم، ليجلس معي في غصن صغير، نزاحم طيور الله في وكناتها، ونستمتع برؤية حركة السوق الدائبة، سينما حية، بلا تذكرة أو صفوف، أبطالها حاجة حليمة، وعثمان الاطرش، ومقهورين آخرين، يمثلون الواقع الحزين، بلا مخرج أو سينارست، تمثيل حقيقي، في اللحم والدم، الشحاذ هو شحاذ، وليس ممثلاُ ثرياً، يتقاضي الملايين، كي يمثل دور شحاذ معدم، منكسر القلب، وأنى له ذلك، فالنائحة الثكلى، ليست كالمستأجرة، فقد كنت اختفي في السابق بين غصون الشجرة حتى يشتري الناظر حاجياته، قلت في السابق لأني بعد الحدث لم أكن محتاجاً لهذا الاختباء، نظر إلى بخجل وإنكسار، وكأنه يترجاني بكل جسمه أن لا أبوح لأحد، فنزلنا لشرب الشاي، معاً، اختل الميزان، أنا الناظر والمدير الآن، وهو الطالب المهمل الكسول، الخائف، يترجاني أن لا أبوح لزملائي، ويربت على كتفي وكأنني نده، صنوه، وكاتم سره، أضحك في سري، حين أتذكره وهو ينطط .. جر جر.. ويتشعلق، ويقع، ويتفوه بكلمات لم أكن أتوقع بأنها مدفونه في ذاكرته إطلاقاً، ظهرت على حقيقتك يا ود سكينة، يا بابكر حسن، وهذا هو اسمه العاري، الحافي، الحقيقي، لقد ولى زمان الجبروت، وتم ميلادك في عصر جديد، سيؤرخ في أخلاد الطلاب .. "ماقبل النبحة .. وما بعد النبحة".. ق ن أم ب ن.


انتشر الخبر وكأنه كان يجري في السماء فوق رؤوس البيوت، وجاءه الناس معزين، ومطالبين بالتعويض للأضرار التي لحقت بهم، تحطيم كبابي وكوانين، وقلل ودهس للطماطم والعجور وقدر الفول. فقد رويت الحادثة 375 مرة، وهي عدد الطلاب والمدرسين زائداً ثلاثة، والثلاثة الزائدة هي أستاذ طلب مني أن أقصها ثلاثة مرات وهو يكاد يقع على قفاه من الضحك.


وفي الفصل، نظر لي وكأنه يستجديني بالصمت، ولكنه حين نظر في عيون الطلاب شعر بوخزها، كانت العيون الماكرة تحمل ضحكة أكبر من صورته القديمة البالية، وحين أخرج الطلاب الكراريس التي ألقاها الناظر وهو يخفف عبأه خوفا من الكلب، استيقن بأني رسمت له صورة كاركاتورية، لن تسطيع بشاورة، ولو كانت بحجم يغطي البلاد من برد الشتاء، أو تغطي البحر من ضوء القمر، قادرة على مسحها من أذهان الطلاب، فدوت ضحكة، لازال ببغاء الصدى يرددها في الأفاق، ولأول مرة يكتب "مدثر" معادلة فيزيائية "سرعة الضوء = سرعة الناظر – سرعة كلبة فاطمة" كتبها على جدار الفصل المواجه للطابور، يمين "العلم نور" و"الفتة فطور" التي اضيفت بخط بدائي.


وكما قلت، تبدو المدرسة بعد الحدث العظيم، الأطفال يلعبون في ساحة المدرسة، كرة القدم ترتطم بشدة باب مكتب الناظر، وكرة التنس بصلعته، لترتد لنا، لنواصل مهرجان الفرح، وكأن شيئاً لم يكن، وهو مستغرق في ذاته، في انعتاقه، في التحولات التاريخية في جسده وغدده وذهنه وحريته، ونظرته لنفسه، للهروب من هوان الذل، أعرف نفسك، وإلا الكلبة قادرة على هذا التعريف، بفعل الكلبة العجفاء، جنود الله التي لا ترونها، وحين يذكر نشوى الأمن التي اعترت وتخللت كل جسمه، كله، بٌعيد ذلك الحدث، وكأن جسمه كتله من بلور زجاجي، اخترقته بصورة كاملة أشعة قوية من الأمن، من الحياة، من الميلاد الجديد، وفي دخيلته، حين يتخيل تلك الحالة، فإنه كان يتمنى أن تسكه الكلبة مدى الدهر، فقد سقطت من ظهره ملايين، مليارات الأقنعة والهموم والمظاهر الكاذبة التي كان يتصنعها لمجاراة رأي عام صارم ومتحجر.


لقد خرج من سجنه بسبب الكلبة العجفاء، جنود الله التي لا نراها، لقد غسلته من كل فهم أو عرف قديم صُبغ به، إنه ينظر للحياة نظرة طفل حديث في السبعين من عمره، أما أنا فقد صرت بطل الحكي في بالمدرسة، أدركت بأن الناظر مجرد إنسان، يخاف ويحب وينام، مثلي، إن لن لم يكن أقل مني، انطلقت موهبتي كالنافورة في أصقاع المدرسة.


وللحق لا نفع لي، سوى أن أحكي، وأن أحكي من رأسي، وليس من كراسي، فأنا فقير ويتيم، ولا يمكنني شراء كتاب، ولا حتى سرقته، ففي قريتي لا توجد مكتبة، بل للحق فأنا أمي رغم السنوات الخمس العجاف بالمدرسة، كتابي هو خيالي، هو قلبي الذي يرغب في ملايين الأشياء، منها الممكن ومنها المستحيل، ثم يحرم منها جميعاً، فلذا فهو يتخيلها، يتخيل شكل الحلاوة، ثم يتخيل طعمها، ثم أمضغها، بتروي حتى لا تنزلق من بين لساني وحلقي، بل يتخيل كل الأشياء كما تروق له، يتخيلها بعمق، كما لو هي موجودة أصلاً، بل يجعلها هي الموجود الحقيقي، والواقع هو الخيال هو السراب، مثل مريض الهذيان، هذيان الحكايات التي تجعلني سيد نفسي، أسمع الأنوار، أرى وقع اللحون، لأنني أحلم بعالم غريب، الحجارة فيه تضحك، كما لو أنها تراود ملاكاً جميلاً، والسماء عبارة عن قلب أم كبير، يلف بحنانه أنفاسي الخائفة، أحكي بعمق، حتى ينصت الناس لي، لأنيني، لأحزاني المخفية تحت جلدي الضئيل، أكرموا محدثكم بالإنصات إليه، حتى يرى وجهه في مرآة عيونكم أحسن ما يكون، لذا كنت أهرب من المدرسة، فأنا الطيش، في سنة أولى وثانية وثالثة، لقد ترك الحمار دوره في الأمثال، فصار يضرب بي المثل في الغباء، لذا كنت أهرب يومياً للسوق، ومن فروع شجرة النيم كنت أرى الناس تحتي، صغاراً مثل النمل، فيهمد خوفي منهم، بل أحبهم، وأتهكم عليهم، واتابع حركاتهم، وتعابير وجوههم الغريبة في عملية البيع والشراء، كم هو غريب وجه بني آدم في مساومات البيع، إيخاف فناء ماله، وكنت اتابع رحلة حبات الطماطم الحمراء من خلال معدتي الخاوية، وهي تلمع مثل صدر آمنة الصغير في أكوام كبيرة وهي مفروشة على شوالات الذرة المبلولة ، ثم وهي توضع في أكياس مصنع ربك محتلة مكان الاسمنت ، ثم هي تكتوي بنار الطبيخ، وأخيراُ وهي في فم آمنة وقد سال لعابها، هذا العسل الذي تمنيت أن أمصه مثل عود قصب السكر، والذي يبدو في استحالته، مثل أن أكون أول الفصل، وقد أحرزت في الرياضيات مائة من مائة، أو أن تصير أمي من صديقات زوجة الناظر وسعاد زوجة حاج علي حتى ألعب بكرة القدم الوحيدة بدارهم، وأشاهد سوبرمان في التلفزيون الأبيض والأسود، ولم تعرف المدرسة موهبتي، إلا بعد أن قصصت حادث الكلبة 375 مرة، بعدد طلاب المدرسة والمعلمين، وفي كل مره أضيف وانقص، دون أن يتشوه المتن، حتى لا تلتفت العيون إلى غيري بسبب الملل، لأنني ألمس أحلامي وأشم أمنياتي وأصنع من الحبة قبة، كما قالت أمي، لأني أشعر بضآلة الحبة، وبفقرها وبتوقها لأن تكون قبة، ولم لا..كنت أبحلق في كريات بعر الحمير بتأني، كما تحدق النساء في لمعة الذهب في الفترينة، ذائباً في تكورها، معاناتها وهي تجتاز أمعاء الحمار الغليظة، هوانها وهي تلفظ سقط متاع، وكأنها ليست أهلا لكي تكون نهقة أو رفسة أو شعر ناعم على ظهر أو ذيل الحمار، ألا يعتبر هذا اكتفاء ذاتي؟!!.

اللوحة:من أعمال جويا

فضيلي جماع:تجليات الوجود في:"آلام ظهر حادّة"، للقاص /عبدالغني كرم الله

في السودان اليوم أكثر من تيار في القصة القصيرة والرواية ؛ يغلب عليها جميعها إنزواء صوت الأيديولوجيا الذي كان السمة الأساسية للتيارات الإبداعية في الفترة بين منتصف الستينات وبداية ثمانينات القرن الماضي. من حيث الشكل واللغة يلاحظ القارئ أن هناك تطوراً نوعياً يأتي كإضافة لما كان في الساحة حتى الثمانينات . وبما أن تجليات الواقع بكل تقلباته السياسية والإقتصادية تمثل أحد أهم شروط إنتاج العمل الأبداعي فإنّ قراءة سريعة لبعض نماذج القصة القصيرة في السودان في العقدين الأخيرين تفصح عن منتج جديد يحمل تفرداً – ليس في الشكل والمضمون فحسب – بل في الصيغ الجمالية للقصة. ونعني بجماليات القصة بعض الصنعة التي تمنح الوسيط اللغوي المحدود حيوية حين تنقله من مجرد كونه ماعوناً للحكاية إلى رؤية جمالية متفردة في عصب البناء القصصي. يصف الكاتب المغربي مصطفى جباري هذه المعادلة بقوله: "إنّ الحكاية وحدها لا تنتج قصة، واللغة وحدها لا تنتج قصة ، لأنهما لا ينتجان رؤية بالمدلول الجمالي للكلمة بمعزل عن الصيغ الفنية والجمالية ، وهذه تأخذ شكل صنعات تنمذج اللغة من خلال بعض الوسائط ، فتنطبع في القصة بناء ومعماراً وإيقاعاً وصورة وتشكيلاً." (أصوات وأصداء – ندوة في القصة المغربية) ، ص17.ولعل جيلاً جديداً في السودان أتيح له – رغم الإحباط القائم- فرصة التلقي المعرفي بغزارة ، عبر انتشار المطبوعة ووسائط النقل المختلفة من راديو وتلفاز وصحيفة وشبكة الإنترنت وغيرها مما جعل تجربته بنت عصرها ، وجعل إبداعه للقصة القصيرة متفرداً. أكتب اليوم عن صوت جديد في القصة القصيرة السودانية في نسختها العربية..(وأقول نسختها العربية لأن هناك قاصين سودانيين يكتبون بالإنجليزية، مثل: آلفريد تابان ، جمال محجوب و ليلى أبوالعلا وغيرهم). ما زالت القصة السودانية - منذ خليل عبدالله الحاج وملكة الدار محمد والطيب زروق مروراً بالطيب صالح وجيل أبوبكر خالد وعلي المك وعيسى الحلو ، وانتهاء بكتابات بشرى الفاضل واحمد الفضل احمد – ما زالت تعيش مرحلة التجريب بحثا عن شكلها وسمتها الخاص.
بين يدي مجموعة قصصية توسمت في كاتبها الموهبة والقدرة على معالجة هذا الجنس الأدبي معالجة لها مذاق مختلف. تحمل المجموعة القصصية عنوان "آلام ظهر حادة" للقاص السوداني الشاب عبدالغني كرم الله. تتوزع المجموعة من حيث الشكل بين القصة القصيرة وبين الأقصوصة بحجمها المتعارف عليه كجنس سردي يتوسط القصة القصيرة والرواية..إضافة إلى ما درج النقدة وبعض الكاتبين على تسميته بالنص، وهي تسمية أقرب للتعريف المبهم لجنس أدبي ليس سرداً قصصيا ً كاملاً. ولعل الكاتب نفسه وجد المتعة في لعبة التجريب ، فلم تتقيد مجموعته بأي من الأنماط الثلاثة المذكورة ضربة لازب. حول إشكالية التجريب يقول نور الدين صدوق: (كل كتابة إبداعية – مهما كان الجنس الذي تنضوي تحته- إن هي في الجوهر سوى تجريب من بين أهدافه الأساسية التميز عن السابق.) "أصوات وأصداء" ، ص83. وبهذا المفهوم فإن من الجائز إدراج العمل الإبداعي عموماً في دائرة المغامرة ؛ فالتجريب هنا محاولة استكشاف للذات وللوجود من حولها. .إذ أنّ الغاية من الكتابة في الغالب هي طرح أسئلة ، ليس بالضرورة أن تتوفر الإجابة لها في الآن والمكان. يقول محمد امنصور من المغرب في هذا المعنى: (إننا نكتب لنطرح سؤآلاَ على الكتابة والوجود. نكتب القصة لنكشف شيئاَ جديدا، تقنية جديدة، علاقة جديدة باللغة ‘وذلك متى امتلكنا القدرة على صياغة أسئلة جديدة تسبر عمق وجودنا الإنساني.)- "أصوات وأصداء" ‘ ص78. يصدق هذا الكلام على مشروع النثر (القصة والمسرح والمقالة) ؛ فالكاتب ناثرا مطلوب منه أن يقف على دلالة الكلمة وما تفصح عنه من فكرة. عليه أن يفصح من خلال الكلمات ماذا يريد أن يقول ؟ على عكس الشاعر الذي تبدو الكلمات في عالمه غاية لا أداة وأنها حمالة أوجه. ولعلّ جان بول سارتر أوجز ذلك حين قال: (واللغة للشاعر مخلوق له كيانه المستقل. ولكنها للمتكلم مجال نشاطه حين يستعين بالكلمات التي تمثل وحدة اللغات. .......فهو محوط بمادة اللغة التي لا يكاد يعي سلطانها عليه ‘ وهي بعد ذلك ذات أثر بالغ في عالمه. والشاعر خارج عن نطاق اللغة ‘ يرى الكلمات من جانبها المعكوس ‘ كأنه من غير عالم الناس.) "جان بول سارتر – ما الأدب؟ ترجمة د. محمد غنيمي هلال" ص34。 وانطلاقاَ من هذا الفهم لمدلول الكلمة عند القاص تتوقف درجة النجاح أوالفشل في قيمة السرد القصصي. من حيث مواعين الكلام واستخدام المفردة ودلالتها أستطيع أن أقول إن لغة السرد عند عبدالغني كرم الله ثرة وحية . تطفر منها هنا وهناك إشارات ثقافة قرآنية وحكمة للمتصوفة دون تكلف أو حذلقة. ولعل أول ما يلفت نظر القارئ لهذه المجموعة غرابة أبطال قصصها ‘ إذ أنّ معظم "الشخصيات" الرئيسية في هذا العمل ليسوا أشخاصا بشراً!! فالأقصوصة التي حملت المجموعة عنوانها يروي أحداثها نعال..أي نعم "جوز حذاء"..(أنا زوج حذاء رجالي مقاس 42). وهنالك قصة بطلتها أنثى كلب ‘ وأخرى تحكي فيها نسمة لرائحة الطمي تجربتها: (كنت على يقين – أنا رائحة الطمي –أنّ السفينة ستتأخر.) ص81 يستعير الوجود في قصص عبدالغني كرم الله النبض الحي للإنسان - أروع مخلوقات هذا الكوكب وأكثرها إبداعاَ. يستنطق كاتبنا الشاب الأشياء العادية في قارعة الطريق ؛ ينفخ فيها روحا وحيوية. الحذاء المدلل داخل "البترينة" يخشى على نفسه أن يرميه حظه العاثر في أصحاب الأرجل الخشنة ؛ يلبسونه ويعبرون به أقذر الأزقة ...هذا ‘ ناهيك عن الرطوبة التي ستتغلغل في عظامي بفضل عرق أرجلهم المشققة ‘ والتي تحشر بداخلي بلا رحمة أو جوارب !) ص8. هذا الحذاء -الذي حملته إحداهن هدية لخطيبها -عاش أسعد اللحظات؛ فكان العين التي ترقب حركات وسكنات المحبوب وهو يسعى خفيفا كالريشة إذ يضرب موعداً مع المحبوبة: ( ولقد لاحظت خفة وزن بني آدم حين يسير مع المحبوب ؛ إنه يكاد يكون بلا وزن‘ وكأنّ روحه الثملة قد أفنت ثقل جسده ، فيغدو واهناً وكأنه يسير على القمر مثل رواد الفضاء.) ص 13لكن أيام الدعة والسكون لا تدوم طويلاً للحذاء المسكين..فقد تسلّل إلى الدار سارق (ودخل الغرفة للسطو على شيء ثمين.) فكان الحذاء الموضوع في صندوق ملفوف بورق السولوفان – لكونه هدية الحبيبة – أول ما وقعت عليه يد اللص. ومن ذاك اليوم لم يكن بالمدينة زقاق مترب أو كثير الطين إلا وديس عليه في تربته الرطبة القذرة. وإذ يبلى الحذاء فإن مكانه القمامة أو ركن قصي بالمنزل في أفضل الأحوال..ويصبح مرتعاً للحشرات والآفات: (في ركن قصيّ تمّ إلقائي ‘ وكأنّي لم استبسل وأدافع بشجاعة عن سعادة وسلامة وجمال الأرجل البشرية، ليس فيّ سنتمتر مربع واحد إلا فيه طعنة شوكة أو ضربة حصى أو شرخ علبة صلصة .) ص34يتميز قلم عبدالغني كرم الله بالسخرية المريرة من سلبيات ابن آدم التي تصاحبه في قيامه وقعوده فيعتادها الآدمي ويجد لها العذر والتبرير. بل إن بعض تلك العادات البشرية الذميمة تصبح سجناً لبعض الناس حتى تدخلهم تجارب الحياة مآزق ومطبات كانوا في غنى عنها، وسعيد الحظ منهم من أخرجته التجربة من سجنه ، وعتقته من عبودية إدمانه السلبيات ، فيخرج إلى الحياة الرحبة من جديد كما الطفل .
يحكي قصة "كلبة فاطمة" طالب فاشل ، لا يجد فرصة للتسلل خلسة من الفصل ومغادرة اليوم الدراسي إلا فعل. لكن الطالب – وهو يتسلل من الحصة الخامسة ذات يوم ليمارس هوايته في تسلق شجرة النيم الضخمة قبالة السوق- يفاجأ بأن ناظر مدرسته المهيب يهرع إلى ذات الشجرة ، ويتسلقها، جالساً على أحد فروعها إلى جواره طالباً النجاة من كلبة فاطمة ! يكثف عبدالغني كرم الله الحدث في هذه القصة ‘ ويشحن التفاصيل الدقيقة بدراما تجعل التوتر عالياً من أول سطر في القصة حتى نهايتها ، فكأنما أريد لسياق القصة أن يجئ ساخناً وسريعاً وغارقاً في الكوميديا . فالقصة تبدأ بالذروة – حيث ساق الحظ العاثر ناظر المدرسة المتجهم ، والصارم ليكون طريدة كلبة فاطمة..فيخلع بنهاية القصة خيلاءه الكاذبة ويعود إلى صورة الإنسان فيه ؛ وقد كان قبل ذلك التاريخ شخصاً من طين آخر طين لا يعرف النكتة والحنان ومسح رؤوس الأيتام ، طين لا يعرف الخوف. كانت حياته محسوبة ، عبارة عن معادلة رياضية ، أي تغير في طرف يخل بالطرف الآخر، خطواته ونظراته ، صورة صارمة وبغيضة يقشعر لها جلد وعيون وشنط وخطوات وكراسات الطلاب.) ص51 يعطي الإيقاع السريع هذه القصة نفثاً درامياً عالياً ،فالمسرح (ساحة السوق) وهو يكتظ بالجمهور متعدد السحنات والمهن والأغراض ، يجذبه العرض الفجائي الذي جاء على غير موعد أو إنذار. تطلق الكلبة نباحاً داوياً وسط السوق وقد اختارت فريستها على مرأى من هذا الحشد. ثم تبدأ الكوميديا، ينسى الناظر صرامته ووقاره المصطنع ويعطي قدميه للريح. (وكلما اقتربت الكلبة من رجليه نسي جزءاً من الوجود المحيط ، من الباعة والنساء والشماسة وأهل الحي) ص53. تزداد وتيرة الوصف وروعة السرد صعوداً مع الحدث ، حتى لنشعر في حالات أنّ تكثيف السرد والعناية بالتفاصيل المتتابعة إنما هو جزء من معركة الجري والملاحقة بين كلبة فاطمة وطريدتها ناظر المدرسة الذي يبحث عن طوق نجاة: (أما أهل السوق‘ فالجائع نسي جوعه ، والحرامي أجّل شغله ، والصعلوك همدت رغبته، فقد تأجل البيع والشراء حتى يتفرجوا عليه ، حتى ينسوا همومهم وغمومهم للحظة صغيرة .) ص53 حررت كلبة فاطمة الناظر من فظاظته وكبريائه الزائف ، وأعادت لساحة المدرسة ضحكات الأطفال ولعبهم دون حذر أو خوف: (لقد خرج من سجنه بسبب الكلبة العجفاء، جنود الله التي لا نراها . لقد غسلته من كل فهم أو عرف قديم صبغ به ، إنه ينظر للحياة نظرة طفل حديث في السبعين من عمره . أما أنا فقد صرت بطل الحكي بالمدرسة . أدركت بأن الناظر مجرد إنسان، يخاف ويحب وينام ، مثلي إن لم يكن أقل مني.) ص61
لعبة التجريب في العمل الإبداعي فضاء مفتوح ، يصعب السيطرة على مجاذيفه. وفي هذه المجموعة جنس إبداعي يستعير شيئاً من طبيعة السرد القصصي وتداعيات الخاطرة. وهو ما اصطلح بعض النقدة على تسميته أحياناً بالنص ، وهي تسمية كما نرى لا تفصح عن دلالة وطبيعة هذا اللون من الكتابة. وعلى سبيل المثال فإن المقطوعات التي حملت عناوين : "الدجاجة أقوى من الأسد" و"أجمل سباق" و"رقص على طبول النسيم" هي أقرب إلى الخواطر وتداعيات الكتابة في لحظة تحرر من قيود الشكل والنمط. إنها محاولات لسبر غور ما في النفس من أمور قد تكون الكتابة الحرة من كل شكل أحياناً أقرب إلى استيعابها، الشيء الذي يجعلها تتأرجح بين السرد القصصى والخاطرة الشخصية.
ألفت نظر الكاتب – في ختام هذه القراءة العابرة- إلى بعض المآخذ التي أحدثت بعض الدمل والخدش الطفيف في جسد هذا العمل الجيد بكل المقاييس. وظني أنّ هذه الكراسة لم تجد حظها من المراجعة الدقيقة قبل ابتعاثها إلى الناشر .أقول هذا دون قصد للحط من لغة أديبنا الشاب ، فالقصص في مجملها كتبت بلغة أنيقة ، وغاية في الفصاحة ..لكن ما أعنيه يقع تحت دائرة الإهمال أو الاستعجال ، ولم أر في تجربتي المتواضعة شيئا أكب المبدعين على وجوههم مثل الاستعجال والإهمال. وأحسب أنّ جانب القصور في هذا العمل الإبداعي – على قلته – جاء نتيجة التسرع والإهمال. وردت بعض العبارات الفطير –على ندرتها - من حيث الصياغة اللغوية . ترد في الصفحة 37 عبارة تقول : ( أي قسوة هذه تلك التي تواجه بها الحياة النفوس!) يمكن للقارئ العادي أن يلحظ ببساطة تكرار أسم الإشارة مما يخلق ركاكة في التعبير إذ يقول: (...هذه تلك التي تواجه..الخ....). أو أن يقول في ص52فاقشعر نظر الناظر..) ، والقشعريرة مقرونة في الغالب الأعم بالبدن. أو أن يقول في موضع آخر: (في ترديد أغان سمجة ظل يحرمها عن فتيات الحي) ص73 ..والصواب "يحرمها على" وليس عن. أو أن يهمل الصفة تماماً بدل أن يتبعها الموصوف كما ينبغي ، كأن يقول: (يجر عبئاً ثقيل...) إذ ليس من عذر يحذف بمقتضاه تنوين الفتح عن كلمة ثقيل..فالصحيح إيرادها : عبئاً ثقيلاً كما تقضي بذلك ضرورة اللغة.أتسقط كل هذه الهفوات لحرصي على موهبة كاتب أتوسم أن يردّ - هو وآخرون خرجوا من صلب زمن الخيبة والإحباط الماثل - أن يردوا إلى دفتر الإبداع السوداني بعض العافية.
فضيلي جمّاع لندن