الاثنين، 2 نوفمبر 2009

البراد فوق الكعبة!!


إهداء: إلى الظلال، والأنوار،.التي غذت حياتنا،...كالأم!!..

بعد أن تغمض الشمس عينها العوراء عند الغروب، وقد أحمرت من بؤس ما رأت على ظهر الأرض، وهي تنفث آخر زفير لها، دم برتقالي، شاعري، حزين، حنن الأفق، ، يحتل ظل الأرض، المسمى مجازا الليل، أركان القرية، ويمسح ببشاورته البيوت والحوائط، حتى المئذنة العالية وصلها، وأخفاها في جيبه الضخم، كل ابواب وشبابيك القرية يلونها الليل بريشته، وبضربه فرشاة واحدة يحيلها للون رمادي قاتم، وأسود، لا نشاز في ألوانه، ولن تجد بقعة قاتمة وأخرى فاتحة، ما أتقن ريشته، كم كان ماهراً، وسريعا في إخفاء قريتي كلها، أتحدى من يغلبه في الدسوسية، يبدو طفلا شقيا وماكر..

وحدها النجوم لم تصل إليها ريشته ..

أشعلت أمي الفانوس في التكل، تسرب ضوء منه عبر الطاقة، فكشف شريط مستطيل من الحوش، وألتمعت عيون الدجاج بطيف ازرق وبنفسجي، إثار قشعريرة خوف صغيرة، وسريعة في بدني، وتسرب جزء من الضوء من الباب، وعكس صلب أمي، وهي منحنية، ضخما، وكأنه صلب فاطنة الصومالية،، فضحكنا انا واختي حتى كدنا ان نقع على قفانا، أمي دوما تفرحنا، حتى بظلها الكاريكاتيري..

خرجت أمي من التكل، وهي تحمل الفانوس بيدها اليسرى، وقد خلق حولها هالة دائرية، كمسيح متجول، نذر نفسه لكشف قناع الظلام عن الترابيز والكانون والسراير، والملايات، ممن الضوء، الفانوس أم أمي؟، فتعود الألوان للشبابيك، والعناقريب، والمخدات، ولكن بصورة أقرب للحلم، فأين الفانوس من الشمس، وأين وهج القلب من إحصاء العقل!!..

دخلت أمي الأوضة، فملأ الليل الحوش في رمشة عين، لا أدري اين يختفي الظلام، ويعود بهذه السرعة، واين يمضي، وهو بهذه الضخامة، فقد غطى القرية كلها، والخلاء، والسماء، وماوراء ذلك، من مساحات، حين احاول تخيلها، أحس بهوان، هوااااااااااااااااان، حتى تمنيت أن أكون أسرع من الضوء، بحيث لو تسابقنا، أكون أنا في الظلمة وهو يجري خلفي، وارى حد الظلمة والنور..

وحين علمت "بعيد حين"، أن الكون يتمدد، إلى يوم الناس هذا، تمنيت أن أرى الحد بين نهايته، وذلك الخلاء الذي يتمدد فيه، إليس هو كون ايضا..

تقدم الشعاع الفاتر أمي، وهي تخرج من الاوضة، وبيدها كبابي، وصينية لشاي المساء، ثم اجتازت عنقريبي وعنقريب اختي، حتى جلست شمالنا، والاوضة جنوبنا..

وضعت امي الكانون، والصينية والكبابي، ثم اشعلت الفحم، ووضعت البراد فوق الكانون، ثم جلست فوق البنبر صابرة، راضية، لا أدري فيما يغني وجدانها الآن..

انا واختي كنا نرى كل ذلك على الحائط الطيني للاوضة، كنا نضحك من رسومات الظل لأمي والبراد، والكبابي، لم تترك الظلال شئ لم تسخر منه، وكأنها تلميذ نجيب لشارلي شابلن..وفجأة اتخذ الكانون شكل الكعبة المشرفة، "هي .. هي"، شكل معكب جميل على الحائط، وبصورة مكعبة، وذات الابعاد، والمساحات للكعبة المشرفة، وذات اللون الاسود،

صرخنا، أنا، وأختي في وقت واحد (الكعبة الكعبة)، لشدة اتقان الظل رسم شكل الكعبة، وكأنه رسمها في عتمة الليل مئات المرات، وكأنه حج مع أبي، وحج مع أمي، وحج مع علي ودالسالم، ورأى الكعبة، عشرات المرات، واختزنها في عقله، ورسمها بتلك الدقة المتناهية، في ظلمة الليل....

كانت امي تحرك الفحم فوق رأس الكعبة، وقد اشتعل جيدا، وبصورة شاعرية، لهب برتقالي وازرق بشكل ورق شجر الليمون، ورق من نار ونور، يتلوى من فحمة لأخرى، مثل طرح فوق رؤس نساء يولولن، لرحيل فارس قبيلة،.. ثم وضعت أمي البراد فوق اللهب، فوق الكانون

صرخنا أنا وأختي معا، ونحن ننظر للحائط ، "للشاشة الطينية".

(البراد فوق الكعبة، البراد فوق الكعبة)!!..

نظرت أمي إلينا، وقالت..

بس.. مجانين...

بغته ظهرت بطة فوق الحائط، لم تكن سوى ظلال يد أختي الماكرة، هزت البطة راسها تعجبا من الكعبة والبراد، مضت البطة ببطء نحو البراد، وحين همت بالشراب منه في الحائط، صاحت امي من النبر،: لا ياسعدية بتحرقي منقار البطة، البراد حار..

ضحكنا على أمي، وأدخلت سعدية يدها تحت الملاءة، وتلاشت البطة من الحائط، كم يطيع المخلوق الخالق، بقصد، أو بدون قصد، كما أطاعت البطة رسغ أختي، وأصابعها الماكرة..

شربنا الشاي، الكباية دافئة في يدي، والليل اسود كشعر "آمنة"، وأنزلت امي البراد من سقف الكعبة..

فرشت امي المصلاية، لصلاة العشاء، صحنا أنا وأختي لأمي:

يمه يمه القبلة كدي..كدي..

أشرنا للكعبة الصغيرة التي تزين الحائط..

مصمصت امي شفتيها، وهي تهزء رأسها بهدوء، وتعجبَ!!

ثم شرعت في الصلاة، وفي قلبها رضى عجيب، لله، الذي اصبغ لعيالها سينما صامتة، "أبيض وأسود" على وجه الزبالة، وهي مسدلة على الحائط الطيني..

فيما ظللنا انا واختي نرقص وننطط من البراد والكعبة وفاطنة الصومالية وامي ورائحة الشاي المقنن، وأكتشاف قبلة ثالثة، وحلاوة الليل العجيبة!!..

الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

في طفولتي



في طفولتي، كنت، ولا أزال، نحيفا، قبيحا، وحققت بعض الفلاح المدرسي، رغم إهمالي، وبغضي لسجن الفصول، وعشقي للحرية العظمى "الفراغ"، حيث أكون "لنفسي، وليس غيري، حين استحممت في يومي الأول للمدرسة، في الفجر الباكر، بكيت من قسوة الصابون وهو يدخل عيوني، وأمي تصيح بي "غمض غمض"، كيف أغمض؟ وهناك عصافير بيضاء، مقبلة من النهر، وتمضي للشمال، وهناك عنزة تحك جلدها بالحائط، كيف أغلق عيني عن كرنفال عظيم، ولو طرفة عين، تبا للصابون، بكيت بحرقة، ليس من مذاق الصابون الحارق في عيني فقط، ولكن، لأني لم أرى سرب من الرهو، وهو يصيح فوق الدار، يصيح لي، كي أسافر، وأطير بعين خيالي معه..


ليت الله، جعل عيوننا مثل الدجاج، كل على حده، كي نرى يسار ويمين، ولا نتلفت حين نقطع الشارع، أو نعلب الكرة، وكي أرى بعيني اليسرى، حين تحمم أمي اليمنى، بل ليته جعل لنا ثلاث عيون، وأخرى في الجهبة، ولكن قد يبدو الوجه قبيحا؟ بمقدور الله ان يجعله جميله، حتى ولو العيون جانبية، وثالثة في قلب الجهبة،، أليس هو الذي جعل المر مرا، والحلو حلوا، بل السم، الذي نخافه، يجري كالدم، في لسان الثعبان، والعقرب، بكل قبحها، تضاجع أنثاها، بصبوة، لا يسبرها الشعر!!.


مضيت للمدرسة، برداء وقيمص ازرق، والعطر يفوح مني، مثل الفضول،، وكراسات بيضاء، من غير سوء، تملأ شنطتي الدمورية، وحين رن الجرس، اتسعت عيوني، فرحة ودهشة، وهي تدخل فصل، منظم الكراسي، وتتقدمه سبورة سوداء، مستطيلة، ولكني بهت، من أول يوم، من أول حصة، من أول دقيقة، إنه سجن..


مناهج باهتة، جافة، كنت أحسبها تندهش حين ترى الدودة، تطوي رأسها وذيلها معا، ثم تفرهما وهي تسعى لعشبة، أو ظل، أليست ذكية!!، وجميلة؟، وناعمة؟، ولكن المناهج كانت جافة، مثل حجر في فمي، وليس حلاوة "حربة"، لم تحرك هذه الدودة فيها ساكن، كما ان قريتي، وأبقارها الجميلة، وحليبها، وقرونها، تلك القرون التي لم تولد معها، حين كانت صغيرة، ولكنها نبتت من رأسها، كما كما تنبت أعشاب السعدة، ولكن من لحم، لم تثير في المناهج أي عجب؟!


كل الحصص، مملة، كاذبة، حتى إصرار الموج على قضم شاطئ النيل الأزرق، والطمي الذي يأتي إلينا، ناعما، رخوا، كريما، من أعالى الجبال الحبشية، سقط سهوا، هو الآخر، من تعجب المناهج، ولم لايستطيع قضم الشاطي، أو أن يكف عن الحركة، بل الرقص الأبدي، كما ان هناك سر ما، في الكون، فيني، فيكم، حدسي يقر بذلك، لم تلمسه هذه المناهج، أبدا، فهي لا تقر بالحدس، مثل قلبي!!...


بل تريد، أن تصبني، كمن يحاول صب فيل، في جسم نملة، تحب الحرص، والتوفير، أهذا كل اللغز،؟ أهذا كل شأنك يا مناهج..


فكنت أذهب في عطلة الصيف الطويلة، إلى الخرطوم، لأخي الأكبر، بل أبي، فقد كان فارق السن كبيرا!!..


كان ابي يحب النساء، كسنة "نبوية"، كما يقول، وتزوج، ثلاث، في فترات متباعدة، حتى صار أخي الأكبر، من أمي الأولى "الزنبية"، بمثابة أبي، أنا الأصغر، بعد رحيل أبي، وللحق كان أبي يحب الطيب، والصلاة، لإكمال ذلك الثالوث النبوي، وللحق رغم ان حكم الوقت كان معه، وكنا نحس بأن لنا ثلاث أمهات، رغم مرارة فقدانه، حين يكون مسافر مع الأخريات، أحس، أنا وأختي الصغيرة، باننا، لسنا وحدنا، في ذات قلبه، وفي هذا، ما يجعل الزوجة الواحده، هي فطرة الحياة، ومبتغاها الأصيل، (كانت لقلبي أهواء مفرقة، فأستجمعت منذ رأتك العين أهوائي)، هكذا يكون التوحيد، في السماء، لله، وفي الأرض للمرأة، للزوجة !!..


كنت صديقا للطين، انحت عوالمي من الماعز، والخراف، والأفيال، واللواري، وكانت أصواتها تخرج من لساني كما هي، سواء كان بوري لوري سعد، حين تعترضه بقرة الشمة، أو نباح كلب ابراهيم ود كيم، لكل الحمير التي تسعى في الفجر للمشروع الزراعي، والاغرب، كانت عيون كل حيوانتي، بما فيها بني آدم، من حصى صغيرة، كبدية، ألصقها على الرأس، أو تحت الأذن، لأصنامي الطينية، التي ظللت أعبد سحرها، وجمالها وهي تجف، وتسعد عيني، كما تسعد قلبي، بالثناء المستطاب من أخوتي، وجيراني (والله شيطان، فنان كبير)، فيثمل قلبي، بهذا الثناء، وأحس بجزء من كياني، تعويضا، لغياب أبي المبكر، وسفر أخوتي الكبار، كيتم قسري آخر، للدراسة بالخرطوم، وبورسودان، وأحس بالتهميش، لم؟ لا مدراس، أو مكتبة، بقريتي البسيطة، لم؟، وهي تمنح الخرطوم كل يوم عشرات من اللواري، والبكاسي، والبصات المحملة بالجرجير، والطماطم، والبصل، واللبن، وبيض الدجاج، والبرسيم...


ولم أحس بأن ركوب الحمير، مهارة، وتوازن خلاق، إلا حين أتى ابن اختي، وهو يكبرني بعامين، من الخرطوم للقرية، فهوى من ظهر الحمار، فصرنا نضحك عليه، وهو يرتجف، ويصرخ بأعلى صوته، ويمترجح يمنى، ويسرى، في حمار يسير بوداعة، ونحن كنا نركب يسرى ويمنى، وبالجنب، والخلف، أفانين من الامتطاء، بل وتحتك جبل من شولات الذرة، في طريقنا للطاحونة، في قرية مجاورة، 3 كيلو ونصف، أهذه مهارة،؟ عجبى، أينطبق علينا قول الحكيم (والعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول)، ناهيك عن مهارات أخر، كالسباحة، والبناء، وتسلق سقف الصالون، كالقرد، وحصد العشب، والنوم تحت قبة زرقاء، مرصعة بنجوم بعيدة، بعيدة، فتحس بأنس، وبهوان عظيم. أليست هذه منح، فما أجمل "الضلال" بملاءة الليل، الليل، وسره الغريب!!..


ولكن حيرني تمثال (اليسع)، الطيني، حين خلقته، كان اليسع صاحب الطابونة، له كرش تتدلى أمامه، كقدم ثالثة، ضخمة، تكاد تلمس الأرض، وحين خلقت له تمثال طيني، كاد يهوي، على بطنه، لأنه أرجله نحيفة (رقاق)، وأنى لي أن أكذب، فرجيله نحاف، ولا أدري لليوم لم لا يسقط اليسع في مشيته، مثل تمثالي الطيني...


كأني امدح عيشي، كأني أقدح عيشي الأول، لست أدري، مثل الليل، تبدو ذاكرة الأيام، ودفق الحياة، اللاإرادي، من ارحام تدفع، لقبور تبلع، بلا حول أو قوى، سوى الاستسلام لأمر غريب، يد خفية، تختار لك زمان الميلاد، ومكانه، وأم وأب، وسرب لا يوصف من الحتميات، الأزلية، حتى الوعي، والجفاء، والامتعاض، وما يتراءى، شأن ذاتي، يغرق في تلكم الأقدار القديمة، وكفى حكيم المعرة، رسولا، لنا (وهل يأبق الانسان من ملك ربه، ويخرج من ارض له وسماء) فتبدو، كل أفعالنا، تحركها، كدمي، غرائز، وشهوات، وطموح،كامن، كمون النار، في مستصغر الشرر، حتى جدي المتنبي، أتعب الاجساد، بالنفوس الكبار، وما النفس، سوى ذلك اللامرئي، الذي يسوق الجسد، لما يريد، ويبغي، فنرى رجالا، يدخلون الفلوات، والسجون، ولم تكن حياتهم، كلها، سوى تلبية، لذلك النداء البعيد، الغريب، العجيب، الفطري، الكامن في النفس!!..


أخي الأكبر، شقيقي، من أبي، كان يقطن بري، امتداد ناصر، وكنت امضي لقضاء العطلة الصيفية، معه،، وهو انجب بنات فقط، حينها، وليس له ولد، واطرب لذلك، لرؤية اخي، وبناته، وعوالم الخرطوم، فكان أكثر جلوسي في عتبة البيت، مقابل بري الدراسية، ومدرسة قرنفلي، ونادي بري الرياضي، والمطار، ومن السعد، أن صف من المدراس، كانت تمر بالفسحة الكبيرة، والتي لا تملك شكلا معينا، امام دار أخي، فكانت عيني تتكحل يوميا، برؤية عشرات من طالبات المدراس المختلفة، والملابس المختلفة، والمشية المختلفة، والسمات المختلفة، فأي كنز، أعظم من هذا، لمن تقوم حياته على الفرجة، والفرجة!


هاهن، على مقربة مني سعبة بنات، في طريقهن لمدرسة السلمابي، لكل منهن، مشيتها، سمتها، هالتها، ضحكتها، حركاتها وهي تناقش، يقفن، لم؟ ثم يتحركن، ثم تجري واحدة من الأخرى، ثم ينظرن لفتى مر قربهن، ثم؟ أهناك أعجب، وأسحر من الفرجة، على الحياة، بلى الحياة،الحياة، ثم يسرن، وكأنهن لسن مع بعض، كل سرحت في عوالمها الخاصة، تلك الخواطر المستكنة في الأعماق حين تطفو فجأة، بلا أذن، وتتركك وحيدا، وأنت في قلب الجماعة..


وكانت العتبة عالمي الأبهى، أراقب الناس، وإقلاع الطائرات الساحر، وأحفظ عن ظهر قلب أي طائرة هولندية أقعلت، وأثوبية نزلت، ومصرية تحلق في سماء الخرطوم، كما كنت أحفظ اسماء البصات الزرقاء، المتهالكة، لامتداد ناصر، وبري عن ظهر قلب، مجرد أن أرى البص يحبو من بعيد، أصيح باسمه لنفسي، ويكون ما خمنت، كما كانت العتبة مسرحا لنساء ناصر، المسنات، وغيرهن، وهن في طريقهن لسوق أربعة الشهير، ببري المحس، أو مكتبة الملتقي للرجال، والصحافة، والايام، والاذاعة والتفلزيون، ولا شك بعد حين، كانت حواري بري، وناصر، وقاردن سيتي، مرتع طفولتي، ومغامراتي، في الفضول، والتحديق، والفرجة، كما كنت كثير التسكع بين أختي، وأخي، الأخرين، في محطة ستة، ومحطة ثمانية، وكان امتداد ناصر، بالنسبة لي، حي صغير، اقطعه (سيافي)، يوميا، أي من الشمال الغربي، للجنوب الشرقي، وبالعكس، طوال سنوات طفولتي، ومراهقتي، لذا تسكين في قاع النفس، حيوات، ومشاهد لا تحصى، ولا أدري لم ثبت في ذهني، منظر فتاة حلوة، تفتح الباب لسيارة أبيها، وهي نعسة، تلبس فستان نوم خفيف، وزاد من خفته ضوء السيارة، ومنظر السرير في الحوش، كأني تلصصت على لحظة حميمة، لأسرة جميلة المحيا، وخاصة الفتاة، التي كثيرا ما رأيتها، تختال في طريقها لمدرسة على السيد، الثانوية العامة..ولكني، لم أكن اتوقع أن اقع في حب، فتاة، لاتعرفني، ولا أعرفها، سوى أن الطريق يأتي بها كل يوم، وهي تلبس زي كبدي، رداء الثانوي العام حينها، مثلي، كنت في الثانوي العام بمدرسة العسيلات، وطرحة بيضاء، وشنطة جلدية سوداء، سعيدة، تداعب ظهرها كل صباح، وظهيرة، وتلبس حذاء ابيض، واسود، وزهري، مع أيام الأسبوع، وتسرح شعرها بطريقة واحدة في الصبح، مجرد كعكة، وعرف حصان، تظهرها الطرحة الشفافة، مثل النملي..


لم الخوف، لم التوتر، كنت اطرق لها الطريق، وكانت هناك هالة ما، تنطلق منها، وتشل تكفيري، وتعقلي، وتجعلني أتمنى أن اذوب في الاثير، حبا، وخوفا، واختباء.


كانت جميلة، وكانت غنية، وفي هذه المنح ما يشلني، ويهربني بالفطرة، كنت أخاف الجمال، أي فتاة جميلة، أرهب جانبها، وأخاف أن تهين ذاتي، أو تسخر مني، فأبتعدت عن الجمال، وغنيت له..


علاقتي مع أخي الأكبر، كانت غريبة، كان صامتا، ومن النوع الذي لا يعرف ان يعبر عن مشاعره، فلن تستطيع ان تعرف ما يجري بدواخله، أبدا، ولم افهمه إلا بعد حين، ولكن في طفولتي، كنت اضع برزخا بيني، وبينه، وكنت ارهب ان اجلس معه طويلا، فهالته اللامرئية، تجعلني متوثبا، محتشدا، رغم حبه لي، وتدليله، بكلمات ملاح (الحلبي، الشاطر)، وهلم جرا، فكانت الساعة معه، دهرا، لا يحصى، من العنت النفسي!!...


وشاء القدر، ان تكون هناك علاقة بين بنت أخي، وتلك الفتاة، علاقة دراسية، مدرسة واحدة، وفصل واحد، ما أعذب القدر، إنه ذكي، ولكنه غامض، ولا يشئ بإسراره، إلا بعد عنت، وتفكر، وتأمل، وتوفيق، وهكذا جرت الايام، والفتاة تزور بنت أختي، ومرات أكون سعيدا، بل شقيا، حين افتح الباب لطارق، ويكون الضيف هي، فتنشل أعصابي، واختبئ بطريقة سريعة خلف ضلفة الباب، وأنا أهذئ بكلميات ترحاب لا أدري نظمها، وترتيبها، ولكن على محياها، ترتسم ابتسامه، لا أقوى على تحليلها، أهي سخرية، أم فرح، أم تعجب، من فتى، يخاف فتاة، أيما خوف..


كنت احب الكمياء، وأحفظ الجدول الدوري عن ظهر قلب، وأحبه، لأنه يعني لي ان العناصر تنظم، بلا حول، أقوة، منها، في جدول حتمي، من المزايا، والقدرات، والصفات، مثل السلم الموسيقى، لا نغمة، تتجاوز حدها، وتأتلف، وتختلف، بأيقاع موزون، وهكذا كان الجدول الدوري، كل في فلك يسبحون، فلا الكلور سابق الهايدروجين، ولا الهايدروجين، يسبق الأكسجين، وما أعذب وأغرب علاقاتها مع بعض، تنفر من عناصر، وتحب عناصر، مثل علاقات الانسان باخيه الانسان، وتشتد علاقة، وتمتن، وتكون أخرى رخوة، كاليورانيم، المسكين، الذي استغل الانسان، رخاوة قوته الايونية، ففرقه أيدي سبا، قنبلة تهز وجدان الكون، من ذرة حقيرة، تستعضى على العين الشحمية روؤيتها، وتحسبونه هينا، وهو عظيم..


المهم، حبي للكمياء، استدرج لي فتاتي، مع أبنة أخي، لدروس عصرية، ليست مجانية، بل بمقدروي دفع دمي، من أجلها، فكانت الفسحة تكنس في العصرية، وترش بخرطوش أحمر، ذو خطوط بيضاء، يتلوى في الدار، ويرشها من الركن للركن، فهو يمتد من الحنفية قرب الباب الصغير، ولحوش النساء، خلف الدار، كما يمتد لآخر ركن في البيت، وراء الصالون، ويسقي هناك بعض الشجيرات، والزهور على الاصيص، كما كنت أفعل كل يوم، وأجد في ذلك متعة لا تقاس، وأنا أرسم بالخرطوم اسمها، واشم رائحة الطمي، تتسلل من أسمها، لا من الماء، فالاستحالة، كائن عادي، حين تنظر لي، بل حين أتخيلها تنظر لي، فأنا لا اقوى النظر إليها، على الإطلاق، تهزني طاقة ما، وتجعلني أشبه باللاكائن، بل مجرد ذبذبة لطيفة، هي انا، مثل الضوء، والطاقة المغناطسية، التي تشد القمر نحو الأرض!!..أخبرتني بنت أخي، بأنها غدا، سوف تأتي لدرس في الكمياء، فأهتز كياني، ولم أفرح، ولم أغضب، ولم اجد كلمة في اللغة العربية، رغم غرورها، تحكي حالي، وتصور انفعالي، ولكني لم أنوم، ولم أصحى، كنت اشبه برجل هاذئ، برجل محموم، لا يدري هل هو يهذي، أم يتألم، أم يتخيل، أم يتذكر، عوالم، تداخلت، في قلبي، وجسمي، حتى أشرقت الشمس، ومضيت متعبا للمدرسة، مثل رجل جاء من بورسودان بالقطار العادي، وظل يساهر، مدى الرحلة، ثلاث أيام، وهو في طريقه للبيت، من محطة السكة حديد، والنعاس يراوده، وأعظم أمنياته، سرير ناعم، وغرفة مظلمة..


كلما، أعود لشرح التكوين، القوالب اللامرئية، التي صبت فها حياتي، كي أسبر جزء من كياني، ، ولكن أحس بضلال أكثر، فأسرتي كما قلت تمتد لثلاث أمهات، هن الزنبية، وسعاد، وبنت المنى، وهي أمي ، ولكل منهن أولاد وبنات، وبصفتي أصغر الأسرة، فقد كانت حالتي أغرب كالاسطورة، فقد كنت ألعب مع ابناء اخواتي، الأكبر سنا، (كنت خالا)، ولكن أصغر من ابناء أختي، كما ان توزع (أمهاتي)، على ريف الجزيرة، وأخرى بالخرطوم، وثالثة شرق النيل، جعل الأسرة، حين تلتقي في الخرطوم لأمر، ما، عرس، سفر أحد، أو مرضة، يجعلك تقلب الطرف في التناقض، في الاشكال، والسحنات، وطرائق التربية، والهموم، واللهجات، حتى تعجب، أهذه كلها (شجرة كرم الله)، ويسرح الطرف لشجرة (آدم)، وتؤمن بالتعدد، من فرس وروم، وزنوج، إن كان حال شجرة أبي، هكذا، فلم اللوم، لوم التعدد، لبني آدم، في أشكالهم، وسحناتهم، ومعتقداتهم..




جزء من ذكريات صباح السبت


3 أكتوبر 2009م


قهوة كوستا




تعارف


تعارف، بل مجرد تعارف بسيط،

وهل تعرف النفس، "نفسها"، حتى تعرفها للناس؟..

ولكنها "العادة".. ففي برق كل خاطرة، يرف معنى جديد، عنك، وعن البيئة حولك، فأنى لي بالتعريف، في بيداء صيرورة لا تكف عن الصيرورة، ولكنه المجاز!.

ود حاجة بنت المنى، بت العوض عدلان، عملت في طفولتي (طالبا، ومزاعا، وراعي) وكنت غير مرغوب في حصة الدين، كثير الاسئلة عن "الله"، أما في حصة الجغرافيا، كنت التلميذ المدلل بحق، فكل الخرائط التي كانت تزين جدار سنة خامسة، (للسودان، والهلال الخصيب، والعالم)، كانت بأناملي الصغيرة... وخريطة (نهر النيل، من المنبع إلى المصب)، الملعقة فوق السبورة، كنت اسبوع كامل ارسم فيها، وعلى ضوء فانوس، ومحني على الارض (لا طربيزة، بل على تبركوة ابي، كنت ارسم)، (الجنى ده راكع ليهو ساعتين، قوم أملأ الابريق للعشا)، هكذا رآني خالي دفع الله، في عتمة الليل، وانا ارسم الخريطة، وللحق، (النيل يستحق السجود، والركوع، والافتتان)!!، توفي أبي مبكرا، فتوثقت علاقتي بالغيب، كان أبي هناك، وأمي هنا، فأي سعد هذا...

كنت متكاسلا، كي أمضي للبرميل في ركن الدار الوسيعة، كي أملا الأبريق لخالي، غرفت له من النيل المرسوم تحتي، حتى تبلل كمي، وصدري.

وفي (الثانوي العام)، كنا نحمل الطوب، في بناء دار (سعد، وجلي، أثرى اثرياء القرية)، كي نشتري مع ابن اختي "جماع" (الالغاز، واجاثا كريستي، ويوسف السباعي)...والبلح واللالوب، والنبق...

(ياجنى الموية الباردة دي من وين، انت مليت الابريق من الزير) هكذا صاح خالي، وهو جالس طرف العنقريب، يتوضأ بمهمل،

في الخرطوم القديمة، كنت احضر حصة، واغيب ثلاثة حصص، كي اتسكع في جامعة الخرطوم، ومكتباتها، وشارع النيل، ومستشفى العيون، (كان أعز اصدقائي طالب مسيحي)، وكان استاذ التربية الدينة يتصور بأني مسيحي، شكلي القمحي، قد يوحي بهذا، (كنت أحب سارتر، وطبعا المسيح)، ولاشك عبدالقادر الجيلاني، وغوثيته، التي يدندن فيها (لم أظهر في شئ كظهوري في الإنسان)، لاني كنت مؤمن بالإنسان، وبقدراته، وبسره، حدسي يقول ذلك..

(فوجئت أثناء الرسم، بدم يتسلل من الأعماق، ويغطي صحفة النهر)

أمتع لحظاتي حين اشاهد أخي الكبير وهو يرسم، تحت ظل الصالون الكبير، وأخي الاصغر منه وهو يكتب، أو ينحت، وحنان امي العظيم، لا يفارق أرنبه أنفي، أرنبة حروفي، تجاه كل الكون، كل الوجود، كل الأشياء، بلا فرز... حتى تصورت الإله أم عظيمة، مطلقة الحنان والجمال والكمال، تحب كل ابنائها، بلا فرز، و(القرد عند أمو غزال)، فانتفى التميز بين المخلوقات، على مستوى حنان أمي، والذي أسقطته على الإله في سمائه العظيمة، وهو كما كان (عصى الفهم، عصى التفسير)...

الأب من جهة السافل، بسيط، سافر مبكرا، ملاك الموت وهو مضيا معا، نحو ضفة النيل الشرقية، للنيل الأزرق، الذي يسقي يهود الحبش، ومتصوفة ابوحراز، ومسيحي سوبا القديمة، بحياد، وطيبة أصيلة، لا أدري متى وصل لهذا الحياد النبيل، وحرر نفسه من فتنة العصبية الغريزية، لهذا وذاك، لقد عمر كثيرا، بلى، النيل عاش طويلا، وأختمرت بأعماقه الرؤى والأفكار، وأتخذ السلوك النبيل، حياد مبارك، جعله يتفرج بمتعة، لا تسوسها الانانية، اللذجة.. أغبطه كثيرا....

الام شرق النيل، "ألم يدفن ابي قربها"، من العسيلات، صعيد السافل، سافرت له مطلع هذا العام، ياله من لقاء خفي، تم بينهما دون علمي.. ياله من لقاء بعد غيبة طويلة..

الاخوة، بين رسام،ومعلم، وشاعر، وما أكثر فشلهم... إسرة فاشلة بحق، في جمع القروش، والقوت، ولكن عشنا، طفولة عجيبة، ومسرات القراءة،والرسم، والنحت... بلى..

أما موطن الروح، فقد صور جز منه ابن العربي (رأى البرق شرقيا، فحن للشرق، ولو راه غربيا للحن للغرب، بأن الذي تهواه بين ضلوعكم، تقلبه الأنفاس جنبا، إلى جنب)،

هل قلت لكم، بأن الدم ملأ كمي أيضا، ي حين كنت أرسم في نهر النيل تحتي، فغرست يدي، ورفعت سمكة تتلوى من سن السنارة ، نزعتها، ورميت السنارة بعيدا، وبرفق وضعت السمكة في صفحة النهر، وهي تمد فمها، كطويلا، أمامها، مثل طفلة مقبلة على القبلة الأولى، (نهري مسالما، لا يغرق حتى الحصى)

كنت اشم رائحة الطمي تتسلل من الألوان التي تلطخ كفي الصغير؟..

وأغرق في تنشق رائحة النهر، جلود كل من تحمم فيه، أو توضأ، أو غرق، يالروعه الشم، روائح أجساد مسكونة بأوراح يهودية، ومسحية،وصوفية، وسرب آخر، من الظنون بالدنيا، وتلقباتها، وغموضها...

الجمعة، 9 أكتوبر 2009

من مجموعة (الام ظهر حادة) كلبة فاطمة. كيف قررت كلبة فاطمة إلغاء فزع الطابور الصباحي وحصة التسميع ؟!!




أي أعجوبة بعد هذه، كنت أهرب من مدرستي منذ الحصة الخامسة، وأتسلق شجرة نيم ضخمة بالسوق قبالة طابونة طيفور، ولم أكد ألتقط أنفاسي من مشقة تسلقها، حتى كان جاري، في الغصن المقابل حضرة الناظر!! وهو حتماً لم يتسلق الشجرة من أجلي، فقد كان يكفيه أن يصيح آمنا من ظل الشجرة المتسخ ببقايا نبق مبلول باللعاب، ومسروق، ومنغرس في التراب، ويسقط من عل، كما لو أن شجرة النيم تثمر نبقاً مأكولاً " أنزل يا ولد يا حمار .. أنت طالب ولا غراب" !!.


يبدو السوق، قبل الحدث الكبير، وخاصة إذا كنت متسلقاً شجرة النيم الكبيرة، مثلي ومثل الناظر، عبارة عن شارع وسيع، ضيقته البضاعة المفروشة على جانبية، أكوام من النبق، ذكرته في البدء لحاجة في نفس "مدثر"، وأكوام الطماطم والعيش والقلل، فيبدو الشارع وكأنه جدول متعرج صغير، هادئاً، الهدوء الذي يسبق صراخ الشحاذين والباعة وضجر الازدحام ومساومات الأسعار والتعارف، وخلو جيوب وامتلاء أخرى، وسرقة ثالثة ورابعة ويبدو شكله العام إنه قد توثب لحرب البيع والشراء الأزلية.


أما المدرسة، قبل الحدث السعيد، فتبدو من أي طائرة تمر، وهي نادراً ما تمر، حوشاً مستطيلاً، فصولاً متراصة، وميداناً جنوبي للطابور الصباحي، وشرقي للكرة الطائرة، ومزرعة صغيرة شمال الفصول، وتبدو المدرسة، من على ظهر حمار، عبارة عن سور متآكل، تحفه أشجار تمر الهندي والموسكيت، وباب سري لأمثالي المتأخرين في الحضور، والمبكرين في الإنصراف، كما تبدو المدرسة من داخل الفصول، عبارة عن أعداد هائلة من الطلاب، لايربط بينها الشكل أو الملبس أو الذكاء، بل شئ واحد أقوى من الرابطة الأيونية بين العناصر الكيماوية، وهو الخوف الجماعي العظيم من حضرة الناظر، ويلفها الصمت، وكأنها ثكنة عسكرية، ولو لمست هواء الفصل، بل الفصول، بل ساحة المدرسة، لوجدته حاراً مشبعاً بالخوف المنبعث من زفير مئات الرئات المذعورة، مناخ خانق، لا تترعرع فيه اتعس الجراثيم الطفيلية، التي قيض لها أن تعيش في أمعاء الفيلة .


أما السوق بعد الحدث السعيد، يبدو وكأن قنبلة ألقيت فيه، أو ريح صرصر من لحم ودم وكرش ونظارات داست على الأخضر واليابس، فالرواكيب قد أنهارت، والطماطم عفصت، أما المدرسة بعد هذا الحدث، فكأنها كرنفال فرح، فالطلاب يركضون بين الأشجار، ومشاغباتهم يتردد صداها بين الفصول، حتى أذن الناظر.


إن ما أقدمت عليه كلبة فاطمة يفوق الوصف والتصور، كسرت حاجزا كبير بيني، بل بيننا وبين الهرم الأكبر، حضرة الناظر، مدير مدرسة العسيلات بنين المتوسطة، حاجز أسمك وأعتى من سور الصين العظيم،، ما كان سيهدم ويتحطم مثل سد مأرب غير مأسوف عليه لو لا بلدوزر كلبه فاطمة، أنيابها الحادة الشريرة، من يتصور إن الناظر، بسمته، ووقاره، والخوف العميق منه، والمترسب في أعمق أعماق قلوبنا وعقولنا وعيوننا، قد ولى بلا رجعة، تلاشى مثل حلاوة قطن، أن ما قدمته لنا كلبه فاطمة يستوجب الشكر مدى الحياة، ومن الآن ولاحقاً لن يصيب صلبها شر من قبلنا، لا حجر ولا عصى، بل سنؤثرها على أنفسنا باللحمة والطعمية، وسنمسح بحنان بالغ على رأسها الصغير الشجاع، بل لو كان الأمر بأيدينا لنصبنا لها تمثالاً، مثل جاليلو ونيوتن وفراداي، الذين قدموا أجل التضحيات من أجل الحركة الطلابية.


وسأقص لكم المشهد، كما هو، لعن الله شاهد الزور، وسأنقل الواقعه كماهي، صورة طبق الأصل، ولو كان نباحها في لساني، وملامحها على وجهي، وسرعتها داخل سيقاني، لواصلت سك الناظر حتى آتي به من الجهة المقابلة إلى نفس المكان، ألم يقل لنا بأن الأرض كروية، البيان بالعمل، بالجري أمام كلبة هزيلة، تخيلته، وقد خرج جارياً من حدود السودان، وبعد بريهات خرجت الكلبة وراءه، ودخل صحاري تشاد، ومالي، وكأنه يجري في حوض من الصمغ، رجلاه أثقل من حجر الطاحونة، وسبح الاطلسي، عارياً فماتت الأسماك من سخونة جلده وعرقه، ورأته الروم والفرس، فضحك عليه بالسرياني والبرتقالي،، وتسلق مرعوباً جبال الانديز، فذابت من أنفاسه ثلوج القمة، كما تذوب كتلة الشحم في الطوة، فسالت حارة فائرة في حقول البن، فملأ الفقراء البراميل والكبابي من فيضانات القهوة الحارة، ولعن أصحاب مزارع البن ثقب الأوزون، وحتى يكون كلامه عن كروية الأرض لاحقا كلام يقين، فما أكثر الأكاذيب التي ملأ بها رؤوسنا وفضحتها سكة الكلبة، الناظر يجري بكل قوته من كلبه فاطمة، منظر قد يبدو شبه عادي، ولكن حين تتصور شكل الناظر، فسيبدو الحدث لك، مثل فيل يولي الأدبار مرعوبا، محاولا إخفاء جسمه الضخم خلف مؤخرة نملة، فالجسم المرعوب لا يعرف المنطق، وبأن الجبل أكبر من الإبرة، وبأن النبق والطماطم تؤكل، و لا تعفص بحذاء الناظر المعفر بروث البهائم والمرحاض، وبأنه من المسلمات، إن الكلب أسرع من صبيان بني آدم، ولكن لكل قانون استثناء، ولكل قاعدة شواذ، وإلا فما الداعي لأن يحتمي الناظر ببطيخة، بل شعرت بحيرة البطيخة وهي تسأل نفسها، كعادة كل المخلوقات المحزونة، وقد سال دمها الأحمر الحلو من خربشة مخالب الكلبة " لم خلقت، ليحتمي بها الناظر، أم لتستمتع بحياتها، أم لتؤكل كتحلية ؟" ليتكم كنتم معنا في الطابور الصباحي، لتقارنوا بين الصورتين، صورته أسداً يتبختر في عرينه، وصورته وهو يبحث في السوق عن بيضة دجاجة لينحشر فيها، ويزاحم السواسيو في رحمها الكروي الأبيض الضيق، وأقسم صادقاً، بحكم قشعريرة جسمي حين يقترب الناظر مني، بأن هذا السوسيو المحزون، لو قدر له أن يعيش بعد هذه المزاحمة، فلن ينبت له ريش ولو عاش عمر نوح، خطواته الموزونة في الطابور، ونظراته من خلف النظارة، يتطاير منها الشرر، حين ينظر إليك، تحس بتيار من أرواح قطط تتلوى وتلفظ أنفاسها في جسدك، وبأنك محصور في ركن ضيق محدقاً في مرزبة مسننة ستهشم رأسك، وكأنه مخلوق من طين خاص، يخلق منه المديرون والرؤساء والعساكر والمجرمين، طين لا يعرف النكتة والحنان ومسح رؤوس الايتام، طين لا يعرف الخوف، كانت حياته محسوبة، عبارة عن معادلة رياضية، إي تغير في طرف يخل بالطرف الأخر، خطواته ونظراته، صورة صارمة وبغيضة، يقشعر لها جلد وعيون وشنط وخطوات وكراسات الطلاب.


بعد الحدث السعيد، والأمور نسبية كما يقول مستر انشتاين، فالفصل جنة لمن يأتي من مكتب الناظر، وجهنم لمن يأتي من بيته، بعد نهاية الدوام، أو قبيل نهاية الدوام، فأنا، وتوخيا للحق، أهرب من الحصة الخامسة بالباب السري، فتحة مخبأة بشجر الموسكيت، إلى السوق، لسرقة النبق، وأتسلق شجرة النيم الضخمة حتى يمر الناظر، لأنه يخرج من الحصة الخامسة، مثلي، لشراء حاجيات البيت، فخرج الناظر كعادته لشراء حاجيات البيت، وفي السوق رأته كلبه فاطمة، كما ترى كل الخلق، ولكنه أثار فيها جوى، بحجم لحمه المكتنز النظيف المعطر، يا ترى هل أدركت الكلبة بحاسة الشم الحادة بأن الناظر هو سبب رشقها اليومي من قبلنا، ننفس المكبوت، وهذه الحجارة أصلاً موجهة نحو قفا الناظر، ولكن لخوفنا العاجز، اتجهت لصلب كلبه فاطمة، عينه على الفيل، ويطعن في ظله، فأرادت الكلبة أن تجتث سبب شقائها من الجذور، فالناظر أولى بالعداء، هكذا تقول الحكمة، وعلم النفس، مجرد أن وصل حضرة الناظر إلي السوق هجمت عليه الكلبة، أطلقت الكلبة نبحة عالية، وكأنها تنبه أهل السوق للكف عن البيع والشراء ومتابعة المسرحية التي جاءوا من أجلها، فلكل حيوان الحق في تضخيم اهتماماته، فأقشعر نظر الناظر، حين تيقن بأنه المقصود بهذا التهديد، وفي البداية كان يوزع نظراته بين الناس وبين الكلبة، كيف يجري ؟ والشارع يضج بالبشر، إنه لا يصلح إلا للبطء ، مزدحم بالخلق، وحتى تقطع الشارع عرضياً فقط، فإنك سوف تسمع ثلاث آذان للصلاة، وتتعرض لعشرة محاولات سرقة، أغلبها ليد دخلت جيبك عن طريق الخطأ نتيجة الزحمة، أو أدخل شخص رجله في شرابك إن كنت أفندياً، لذا وضع الناس قروشهم في مكان غريب، كما وضع الله فرج المرأة بين الرجلين، وربطوها بالسراويل، فالأجساد هنا تتلاحم، تلاحم العرايا في غرف النوم في عز الشتاء، في هذا الحشر جرى الناظر بصورة تحافظ على وقاره، وعلى قدسية الرأي العام، وكلما اقتربت الكلبة من رجليه، نسى جزءاً من الوجود المحيط، من الباعة والنساء والشماسة وأهل الحي، كانت الضحكات الساخرة تصل اذنيه، وتجرحه، ولكن كشرت الكلبة عن عداوة غير متوقعه، فأوصله الخوف حد الصفر، بين أن يضع للرأي العام بالاً، وبين انقاذ نفسه، وبأي طريقه وبأي أسلوب، خاطئ أم صواب، ردئ أم جيد، مضحك أم مثالي، أما أهل السوق، فالجائع نسى جوعه، والحرامي أجل شغله، والصعلوك همدت رغبته، فقد تأجل البيع والشراء، حتى يتفرجوا عليه، حتى ينسوا همومهم وغموهم للحظة صغيرة، توقفت حركة السوق الواقف والمنحني والجالس، وكأنهم في صوره فوتوغرافية بلا حراك، فقد استجد موضوع، حين يختل نظام الحياة الصارم الممل، تطرب النفوس، ما أحلى المفارقة، وخاصة إن كان بطلها ناظراً وقوراً وكلبه عجفاء، أما الناظر فقد اختفى الوجود من عينيه، انه لا يعرف أيسكه كلب أم كلبه، خرج عن الزمان والمكان، سوى هذا الكلب المكشر عنه أنيابه، أتجري من كلبه عجفاء يا مدير المدرسة، جري الفطرة، وليس جري التكلف، جري مياه الأمطار، وليس جري صنابير المياه، كنا نحس أن جسمه لا يعرف الخوف، هكذا خٌلق، جسم لا تعتريه سوى الصرامة والاحترام والخطوات الموزونة، في البدء كان يجري وهو خائف على صورته أن تهتز، فالميدان هو السوق، حيث النجار والخضرجي وبائعات الشاي، وقد كسر في ركضه كبابي الشائ وداس على كيمان الطماطم والعجور، خسائر فادحه لتجار بسطاء، أحس بأن الكلب هدم كل ما بناه، وبأن حياة جديدة رسمها الكلب، صحيح عنتر كتلو أعمى، وحين اقتربت منه الكلبة، فنى عن الجميع، لم يعد سوى كلبة فاغرة فاه، وناب حاد يود أن يغوص في فخذه الثمين، جسم عجوز مهدد بالعض والتمزيق، وروح مهدده، شعر بروحه، وبكيانه، بل بكل ذره فيه، نسى المدرسة وأولاده وهم الرزق، كل المخاوف والحياة استحالت إلى كلبة تهدد وجوده على ظهر البسيطة، كلبة كالظل، سوف يلاحقك طوال حياتك ياحضرة الناظر المحترم، حتى لو نجوت منه، هل ستنجو مما فعله بك أمام الخلق، كم عذبه هي الذاكرة، رائحة الأحداث تمتد عبر الزمن، وكأنها نهر لا مصب له، الألسن تخبر الأذان، والأذان تخبر الألسن، دواليك، جيل بعد جيل، هل تذكر هتلر وهبنقة، إنها غريزة الخلود، الحكايات تلد الحكايات، ستكون وصمة عار لأحفادك وأحفادهم، لقد غزت فضيحتك أيام المجهول البعيدة، شمس لا تكف عن الشروق، ولأول مره في حياته يرى أن الموت شئ بسيط ومباغت، كحقيقة مجسدة، وليس وهما يؤرق النفس، أنهمر العرق من كل عضلات ومسامات الجلد الخائفة المسرعة، وللحق توحد مع الخوف، لم يعد سوى خوف يملأ كيانه، وكأنه قالب خوف، تمنى أن يخرج بسرعته عن الزمان والمكان، أو أن يصحو فجأة، وكأن الحياة كابوس، حلم مزعج، كذبه، مرت برأسه شرائط حياته كلها كالبرق، بل ملايين الحيوات، لا خلاص من الكلبة سوى السرعة، حبل النجاة هي أن يسرع بكل قوته، ماهي السرعة؟ أهي حبل النجاة، أهي الابتعاد عن العدو فقط، إهي العجز عن المواجهة، أهي الاعتراف بكينونة الخوف الفطري، لقد تعجبت من سرعته، أين كانت هذه السرعة، كامنة في هذا الجسد المترهل العجوز، قنبلة من الجري كانت مخبأة خلف وقاره الكاذب، ولهذا خلق الله الأقدام في خلوة الرحم، طويلة ورفيعة ورشيقة، كي تركض، كي تقفز، سرعة كامنة في الأرجل، فانفجرت مدوية بسبب نباح الكلبة المسعور، طاقة إلهيه لحفظ الذات، وهل تسعفه سرعته المحدودة، ليت له سيقان الريح أو الضوء أو الخيال، بدأ يسرع الخطو، وكأنه حشد له كل ما قدر له في حياته من طاقة الجري، كانت سرعته أكبر من رجليه، وكأنه يطير، إنه الخوف الحقيقي، الخوف الذي يهدد حقيقة حياتك، وتجد نفسك بغتة، وبلا توقع، في مواجهة الموت.. الموت.. الموت، هذه الكلمة القديمة الحديثة، تقابلك كتجربة شخصية ماثلة، فيك، وليس في غيرك، كلمة بكر، لم يجربها جسمك بعد، إنها أكبر من الألم والخوف والانفعالات، إنها ذروة لا تبلغ وتعرف إلا بالتجربة، الموت يفتك بحياتك الكبيرة بيسر وببساطه، كم أكذوبة انت أيتها الحياة، جذوة واهنة تطفأ بأوهن نسيم، أهكذا يطرق الموت الباب، في أي لحظة غير متوقعة يريدها هو، وكأنه يكره ظاهرة الاستعداد، حتى بالنسبة له، لاشكل له ولا رائحة، ولاوجود، عدو غريب، مسكون بالمباغتة، أهكذا تسدل ستارة حياته الحافلة بالتربية والعلم، يموت وسط السوق، محروق الحشي، معفراً، مسكوكاً، خائفاً، معضوضاً في مؤخرته، والكلبة الهزيلة تشد من أزرها، وأي ضير ان ينتقل اللحم من جسم الناظر المكتنز إلى جلد الكلبة الضامرة، "العدالة قيمة عليا" شعار خلف مكتب الناظر، أحس الناظر بأشياء بكيانه كانت منسية، نائمة، أشياء مجردة بدأت تتجسد وتحس، قلبه الميت بين ضلوعه هب مذعوراً من كمية الدم المتدفقة نحوه والمليئة بالأكسجين، وكأنه يتنفس بفتحاته التسع، كانت رجله مهددة بالعض، أحس بكعب رجله، كما يحس بعينه، وبعضلاته وبفخذة وبساقيه وببطنه وشعره وسرته، وبأن الألم، هذا الكائن الغريب يدخل عليه من هذه الأبواب، أحس بأن الجسم هو الروح، حقاً هو الروح، روح خفيف يخاف ويفرح ويموت، وهل تموت سوى الروح ؟ لقد كسر في ركضه الجنوني الكاريكاتوري أواني الشاي لسعاد، ولم يقف ليعتذر لها، لا قانون ولا أخلاق مع الخوف، أستحال إلى كتلة هوجاء، فوضى من اللحم، مسكون بشيطان الخوف العظيم، بالأنانية الكبرى، احتمى بالشحاذين، وبالشجر وبالأطفال، لم يكن ينظر سوى لنفسه، تعرى، تنكر لكل الخطب الرنانة التي ملأ بها أذاننا في الطابور، التضحية.. الإيثار، نكران الذات، إي نكران للذات وأنت تحتمي بحليمة الهرمة العمياء من الكلبة المسعورة، وإي حكمة وأن تدوس بأرجلك المرعوبة على رأس مال سعاد الأرملة، لم أعد أصدق ما يقوله في الطابور والفصول، حتى كروية الأرض والجاذبية الأرضية، وقصيدة السماء الضحوك للشابي، فالأرض مكعبة، والجاذبية في رائحة العجور والنبق ووجه آمنة فقط، صارت موضع شك وارتياب عندي كل الاشياء التي ملأ بها رؤوسنا المكلومة، قطع الرقاب ولا قطع الأرزاق، إنني معجب بالناظر في هذا الوقت، تمنيت تقبيله، إنه حر، يكاد يكون حراً من كل القيود، أنه معذور، لو بكى، لو تعرى، لو كسر، لا تثريب عليه، كالعنب يحمل بداخله الخمر ولا يوبخ، تحول المشهد إلى كلبة وناظر، كلبة مسعورة وأرنب خائف مذعور، كلبة لم تترب على احترام الكبار، وتوقير حضرة الناظر، وأداء الواجب واحترام الرأي العام، وجدت ضالتها فيك، أغراه سمتك ووقارك، كلبة جائعة منسية، ليس في السوق قطعة عظم، لا كوش ولافضلات، إناس فقراء، موخراتهم مقفولة منذ عام، فما يدخل الفم لايكفي حاجة الجسم من الطاقة والصبر ومكابدة الحياة، فوجد في فخذ الناظر لحماً طرياً، مرت بالناظر أطياف الوداع، ملايين الصور، لأحياء وأموات، لأناس قابلهم في عشرة لا تتجاوز جزء الثانية، تذكر حتى رائحتهم، ملابسهم، هل جن، اختلط الحابل بالنابل، الذاكرة بالخيال، أيودع بيته وحياته للابد؟ هذيان المحتضر، أرتعش قلبه، نسى جميع الآراء والمعتقدات التي شب عليها، وألقى نظره بكر للوجود، كان يجري بأقصى سرعة، حتى بدت أرجلهما، أرجل الكلب والناظر، مثل مروحة في نمرة واحد، لا ترى سوى كره من الحديد، بل لو أعادو الجري بالتصوير البطئ لبدت مثل مروحة في نمرة واحد، وهو في ركضه رمى شنطته وكراسات الإملاء للفصل الرابع، فصلي، حتى يكون خفيفا، ولحقت بها الساعة والجزمة والبنطلون، يا ترى حين كان يتجول سابقاً، هل تصور بأنه سيقفز فوق كوم البطيخ المرتفع، وبأنه سيرشق كلبه فاطمة بخبز طيفور الحار، وبأنه سوف يلف حول سبيل السوق أربعة عشرة مرة لاهثاً، وقد أطلقنا على السبيل "كعبة الناظر" فمن غيره يطوف حول السبيل 14 مرة لاهثاً وكأنه كعبة يرجو مساعدتها.


وانتهى الحدث السعيد، مصائب قوم عند قوم فوائد، بعد أن تسلق الناظر شجرة النيم، ليجلس معي في غصن صغير، نزاحم طيور الله في وكناتها، ونستمتع برؤية حركة السوق الدائبة، سينما حية، بلا تذكرة أو صفوف، أبطالها حاجة حليمة، وعثمان الاطرش، ومقهورين آخرين، يمثلون الواقع الحزين، بلا مخرج أو سينارست، تمثيل حقيقي، في اللحم والدم، الشحاذ هو شحاذ، وليس ممثلاُ ثرياً، يتقاضي الملايين، كي يمثل دور شحاذ معدم، منكسر القلب، وأنى له ذلك، فالنائحة الثكلى، ليست كالمستأجرة، فقد كنت اختفي في السابق بين غصون الشجرة حتى يشتري الناظر حاجياته، قلت في السابق لأني بعد الحدث لم أكن محتاجاً لهذا الاختباء، نظر إلى بخجل وإنكسار، وكأنه يترجاني بكل جسمه أن لا أبوح لأحد، فنزلنا لشرب الشاي، معاً، اختل الميزان، أنا الناظر والمدير الآن، وهو الطالب المهمل الكسول، الخائف، يترجاني أن لا أبوح لزملائي، ويربت على كتفي وكأنني نده، صنوه، وكاتم سره، أضحك في سري، حين أتذكره وهو ينطط .. جر جر.. ويتشعلق، ويقع، ويتفوه بكلمات لم أكن أتوقع بأنها مدفونه في ذاكرته إطلاقاً، ظهرت على حقيقتك يا ود سكينة، يا بابكر حسن، وهذا هو اسمه العاري، الحافي، الحقيقي، لقد ولى زمان الجبروت، وتم ميلادك في عصر جديد، سيؤرخ في أخلاد الطلاب .. "ماقبل النبحة .. وما بعد النبحة".. ق ن أم ب ن.


انتشر الخبر وكأنه كان يجري في السماء فوق رؤوس البيوت، وجاءه الناس معزين، ومطالبين بالتعويض للأضرار التي لحقت بهم، تحطيم كبابي وكوانين، وقلل ودهس للطماطم والعجور وقدر الفول. فقد رويت الحادثة 375 مرة، وهي عدد الطلاب والمدرسين زائداً ثلاثة، والثلاثة الزائدة هي أستاذ طلب مني أن أقصها ثلاثة مرات وهو يكاد يقع على قفاه من الضحك.


وفي الفصل، نظر لي وكأنه يستجديني بالصمت، ولكنه حين نظر في عيون الطلاب شعر بوخزها، كانت العيون الماكرة تحمل ضحكة أكبر من صورته القديمة البالية، وحين أخرج الطلاب الكراريس التي ألقاها الناظر وهو يخفف عبأه خوفا من الكلب، استيقن بأني رسمت له صورة كاركاتورية، لن تسطيع بشاورة، ولو كانت بحجم يغطي البلاد من برد الشتاء، أو تغطي البحر من ضوء القمر، قادرة على مسحها من أذهان الطلاب، فدوت ضحكة، لازال ببغاء الصدى يرددها في الأفاق، ولأول مرة يكتب "مدثر" معادلة فيزيائية "سرعة الضوء = سرعة الناظر – سرعة كلبة فاطمة" كتبها على جدار الفصل المواجه للطابور، يمين "العلم نور" و"الفتة فطور" التي اضيفت بخط بدائي.


وكما قلت، تبدو المدرسة بعد الحدث العظيم، الأطفال يلعبون في ساحة المدرسة، كرة القدم ترتطم بشدة باب مكتب الناظر، وكرة التنس بصلعته، لترتد لنا، لنواصل مهرجان الفرح، وكأن شيئاً لم يكن، وهو مستغرق في ذاته، في انعتاقه، في التحولات التاريخية في جسده وغدده وذهنه وحريته، ونظرته لنفسه، للهروب من هوان الذل، أعرف نفسك، وإلا الكلبة قادرة على هذا التعريف، بفعل الكلبة العجفاء، جنود الله التي لا ترونها، وحين يذكر نشوى الأمن التي اعترت وتخللت كل جسمه، كله، بٌعيد ذلك الحدث، وكأن جسمه كتله من بلور زجاجي، اخترقته بصورة كاملة أشعة قوية من الأمن، من الحياة، من الميلاد الجديد، وفي دخيلته، حين يتخيل تلك الحالة، فإنه كان يتمنى أن تسكه الكلبة مدى الدهر، فقد سقطت من ظهره ملايين، مليارات الأقنعة والهموم والمظاهر الكاذبة التي كان يتصنعها لمجاراة رأي عام صارم ومتحجر.


لقد خرج من سجنه بسبب الكلبة العجفاء، جنود الله التي لا نراها، لقد غسلته من كل فهم أو عرف قديم صُبغ به، إنه ينظر للحياة نظرة طفل حديث في السبعين من عمره، أما أنا فقد صرت بطل الحكي في بالمدرسة، أدركت بأن الناظر مجرد إنسان، يخاف ويحب وينام، مثلي، إن لن لم يكن أقل مني، انطلقت موهبتي كالنافورة في أصقاع المدرسة.


وللحق لا نفع لي، سوى أن أحكي، وأن أحكي من رأسي، وليس من كراسي، فأنا فقير ويتيم، ولا يمكنني شراء كتاب، ولا حتى سرقته، ففي قريتي لا توجد مكتبة، بل للحق فأنا أمي رغم السنوات الخمس العجاف بالمدرسة، كتابي هو خيالي، هو قلبي الذي يرغب في ملايين الأشياء، منها الممكن ومنها المستحيل، ثم يحرم منها جميعاً، فلذا فهو يتخيلها، يتخيل شكل الحلاوة، ثم يتخيل طعمها، ثم أمضغها، بتروي حتى لا تنزلق من بين لساني وحلقي، بل يتخيل كل الأشياء كما تروق له، يتخيلها بعمق، كما لو هي موجودة أصلاً، بل يجعلها هي الموجود الحقيقي، والواقع هو الخيال هو السراب، مثل مريض الهذيان، هذيان الحكايات التي تجعلني سيد نفسي، أسمع الأنوار، أرى وقع اللحون، لأنني أحلم بعالم غريب، الحجارة فيه تضحك، كما لو أنها تراود ملاكاً جميلاً، والسماء عبارة عن قلب أم كبير، يلف بحنانه أنفاسي الخائفة، أحكي بعمق، حتى ينصت الناس لي، لأنيني، لأحزاني المخفية تحت جلدي الضئيل، أكرموا محدثكم بالإنصات إليه، حتى يرى وجهه في مرآة عيونكم أحسن ما يكون، لذا كنت أهرب من المدرسة، فأنا الطيش، في سنة أولى وثانية وثالثة، لقد ترك الحمار دوره في الأمثال، فصار يضرب بي المثل في الغباء، لذا كنت أهرب يومياً للسوق، ومن فروع شجرة النيم كنت أرى الناس تحتي، صغاراً مثل النمل، فيهمد خوفي منهم، بل أحبهم، وأتهكم عليهم، واتابع حركاتهم، وتعابير وجوههم الغريبة في عملية البيع والشراء، كم هو غريب وجه بني آدم في مساومات البيع، إيخاف فناء ماله، وكنت اتابع رحلة حبات الطماطم الحمراء من خلال معدتي الخاوية، وهي تلمع مثل صدر آمنة الصغير في أكوام كبيرة وهي مفروشة على شوالات الذرة المبلولة ، ثم وهي توضع في أكياس مصنع ربك محتلة مكان الاسمنت ، ثم هي تكتوي بنار الطبيخ، وأخيراُ وهي في فم آمنة وقد سال لعابها، هذا العسل الذي تمنيت أن أمصه مثل عود قصب السكر، والذي يبدو في استحالته، مثل أن أكون أول الفصل، وقد أحرزت في الرياضيات مائة من مائة، أو أن تصير أمي من صديقات زوجة الناظر وسعاد زوجة حاج علي حتى ألعب بكرة القدم الوحيدة بدارهم، وأشاهد سوبرمان في التلفزيون الأبيض والأسود، ولم تعرف المدرسة موهبتي، إلا بعد أن قصصت حادث الكلبة 375 مرة، بعدد طلاب المدرسة والمعلمين، وفي كل مره أضيف وانقص، دون أن يتشوه المتن، حتى لا تلتفت العيون إلى غيري بسبب الملل، لأنني ألمس أحلامي وأشم أمنياتي وأصنع من الحبة قبة، كما قالت أمي، لأني أشعر بضآلة الحبة، وبفقرها وبتوقها لأن تكون قبة، ولم لا..كنت أبحلق في كريات بعر الحمير بتأني، كما تحدق النساء في لمعة الذهب في الفترينة، ذائباً في تكورها، معاناتها وهي تجتاز أمعاء الحمار الغليظة، هوانها وهي تلفظ سقط متاع، وكأنها ليست أهلا لكي تكون نهقة أو رفسة أو شعر ناعم على ظهر أو ذيل الحمار، ألا يعتبر هذا اكتفاء ذاتي؟!!.

اللوحة:من أعمال جويا

فضيلي جماع:تجليات الوجود في:"آلام ظهر حادّة"، للقاص /عبدالغني كرم الله

في السودان اليوم أكثر من تيار في القصة القصيرة والرواية ؛ يغلب عليها جميعها إنزواء صوت الأيديولوجيا الذي كان السمة الأساسية للتيارات الإبداعية في الفترة بين منتصف الستينات وبداية ثمانينات القرن الماضي. من حيث الشكل واللغة يلاحظ القارئ أن هناك تطوراً نوعياً يأتي كإضافة لما كان في الساحة حتى الثمانينات . وبما أن تجليات الواقع بكل تقلباته السياسية والإقتصادية تمثل أحد أهم شروط إنتاج العمل الأبداعي فإنّ قراءة سريعة لبعض نماذج القصة القصيرة في السودان في العقدين الأخيرين تفصح عن منتج جديد يحمل تفرداً – ليس في الشكل والمضمون فحسب – بل في الصيغ الجمالية للقصة. ونعني بجماليات القصة بعض الصنعة التي تمنح الوسيط اللغوي المحدود حيوية حين تنقله من مجرد كونه ماعوناً للحكاية إلى رؤية جمالية متفردة في عصب البناء القصصي. يصف الكاتب المغربي مصطفى جباري هذه المعادلة بقوله: "إنّ الحكاية وحدها لا تنتج قصة، واللغة وحدها لا تنتج قصة ، لأنهما لا ينتجان رؤية بالمدلول الجمالي للكلمة بمعزل عن الصيغ الفنية والجمالية ، وهذه تأخذ شكل صنعات تنمذج اللغة من خلال بعض الوسائط ، فتنطبع في القصة بناء ومعماراً وإيقاعاً وصورة وتشكيلاً." (أصوات وأصداء – ندوة في القصة المغربية) ، ص17.ولعل جيلاً جديداً في السودان أتيح له – رغم الإحباط القائم- فرصة التلقي المعرفي بغزارة ، عبر انتشار المطبوعة ووسائط النقل المختلفة من راديو وتلفاز وصحيفة وشبكة الإنترنت وغيرها مما جعل تجربته بنت عصرها ، وجعل إبداعه للقصة القصيرة متفرداً. أكتب اليوم عن صوت جديد في القصة القصيرة السودانية في نسختها العربية..(وأقول نسختها العربية لأن هناك قاصين سودانيين يكتبون بالإنجليزية، مثل: آلفريد تابان ، جمال محجوب و ليلى أبوالعلا وغيرهم). ما زالت القصة السودانية - منذ خليل عبدالله الحاج وملكة الدار محمد والطيب زروق مروراً بالطيب صالح وجيل أبوبكر خالد وعلي المك وعيسى الحلو ، وانتهاء بكتابات بشرى الفاضل واحمد الفضل احمد – ما زالت تعيش مرحلة التجريب بحثا عن شكلها وسمتها الخاص.
بين يدي مجموعة قصصية توسمت في كاتبها الموهبة والقدرة على معالجة هذا الجنس الأدبي معالجة لها مذاق مختلف. تحمل المجموعة القصصية عنوان "آلام ظهر حادة" للقاص السوداني الشاب عبدالغني كرم الله. تتوزع المجموعة من حيث الشكل بين القصة القصيرة وبين الأقصوصة بحجمها المتعارف عليه كجنس سردي يتوسط القصة القصيرة والرواية..إضافة إلى ما درج النقدة وبعض الكاتبين على تسميته بالنص، وهي تسمية أقرب للتعريف المبهم لجنس أدبي ليس سرداً قصصيا ً كاملاً. ولعل الكاتب نفسه وجد المتعة في لعبة التجريب ، فلم تتقيد مجموعته بأي من الأنماط الثلاثة المذكورة ضربة لازب. حول إشكالية التجريب يقول نور الدين صدوق: (كل كتابة إبداعية – مهما كان الجنس الذي تنضوي تحته- إن هي في الجوهر سوى تجريب من بين أهدافه الأساسية التميز عن السابق.) "أصوات وأصداء" ، ص83. وبهذا المفهوم فإن من الجائز إدراج العمل الإبداعي عموماً في دائرة المغامرة ؛ فالتجريب هنا محاولة استكشاف للذات وللوجود من حولها. .إذ أنّ الغاية من الكتابة في الغالب هي طرح أسئلة ، ليس بالضرورة أن تتوفر الإجابة لها في الآن والمكان. يقول محمد امنصور من المغرب في هذا المعنى: (إننا نكتب لنطرح سؤآلاَ على الكتابة والوجود. نكتب القصة لنكشف شيئاَ جديدا، تقنية جديدة، علاقة جديدة باللغة ‘وذلك متى امتلكنا القدرة على صياغة أسئلة جديدة تسبر عمق وجودنا الإنساني.)- "أصوات وأصداء" ‘ ص78. يصدق هذا الكلام على مشروع النثر (القصة والمسرح والمقالة) ؛ فالكاتب ناثرا مطلوب منه أن يقف على دلالة الكلمة وما تفصح عنه من فكرة. عليه أن يفصح من خلال الكلمات ماذا يريد أن يقول ؟ على عكس الشاعر الذي تبدو الكلمات في عالمه غاية لا أداة وأنها حمالة أوجه. ولعلّ جان بول سارتر أوجز ذلك حين قال: (واللغة للشاعر مخلوق له كيانه المستقل. ولكنها للمتكلم مجال نشاطه حين يستعين بالكلمات التي تمثل وحدة اللغات. .......فهو محوط بمادة اللغة التي لا يكاد يعي سلطانها عليه ‘ وهي بعد ذلك ذات أثر بالغ في عالمه. والشاعر خارج عن نطاق اللغة ‘ يرى الكلمات من جانبها المعكوس ‘ كأنه من غير عالم الناس.) "جان بول سارتر – ما الأدب؟ ترجمة د. محمد غنيمي هلال" ص34。 وانطلاقاَ من هذا الفهم لمدلول الكلمة عند القاص تتوقف درجة النجاح أوالفشل في قيمة السرد القصصي. من حيث مواعين الكلام واستخدام المفردة ودلالتها أستطيع أن أقول إن لغة السرد عند عبدالغني كرم الله ثرة وحية . تطفر منها هنا وهناك إشارات ثقافة قرآنية وحكمة للمتصوفة دون تكلف أو حذلقة. ولعل أول ما يلفت نظر القارئ لهذه المجموعة غرابة أبطال قصصها ‘ إذ أنّ معظم "الشخصيات" الرئيسية في هذا العمل ليسوا أشخاصا بشراً!! فالأقصوصة التي حملت المجموعة عنوانها يروي أحداثها نعال..أي نعم "جوز حذاء"..(أنا زوج حذاء رجالي مقاس 42). وهنالك قصة بطلتها أنثى كلب ‘ وأخرى تحكي فيها نسمة لرائحة الطمي تجربتها: (كنت على يقين – أنا رائحة الطمي –أنّ السفينة ستتأخر.) ص81 يستعير الوجود في قصص عبدالغني كرم الله النبض الحي للإنسان - أروع مخلوقات هذا الكوكب وأكثرها إبداعاَ. يستنطق كاتبنا الشاب الأشياء العادية في قارعة الطريق ؛ ينفخ فيها روحا وحيوية. الحذاء المدلل داخل "البترينة" يخشى على نفسه أن يرميه حظه العاثر في أصحاب الأرجل الخشنة ؛ يلبسونه ويعبرون به أقذر الأزقة ...هذا ‘ ناهيك عن الرطوبة التي ستتغلغل في عظامي بفضل عرق أرجلهم المشققة ‘ والتي تحشر بداخلي بلا رحمة أو جوارب !) ص8. هذا الحذاء -الذي حملته إحداهن هدية لخطيبها -عاش أسعد اللحظات؛ فكان العين التي ترقب حركات وسكنات المحبوب وهو يسعى خفيفا كالريشة إذ يضرب موعداً مع المحبوبة: ( ولقد لاحظت خفة وزن بني آدم حين يسير مع المحبوب ؛ إنه يكاد يكون بلا وزن‘ وكأنّ روحه الثملة قد أفنت ثقل جسده ، فيغدو واهناً وكأنه يسير على القمر مثل رواد الفضاء.) ص 13لكن أيام الدعة والسكون لا تدوم طويلاً للحذاء المسكين..فقد تسلّل إلى الدار سارق (ودخل الغرفة للسطو على شيء ثمين.) فكان الحذاء الموضوع في صندوق ملفوف بورق السولوفان – لكونه هدية الحبيبة – أول ما وقعت عليه يد اللص. ومن ذاك اليوم لم يكن بالمدينة زقاق مترب أو كثير الطين إلا وديس عليه في تربته الرطبة القذرة. وإذ يبلى الحذاء فإن مكانه القمامة أو ركن قصي بالمنزل في أفضل الأحوال..ويصبح مرتعاً للحشرات والآفات: (في ركن قصيّ تمّ إلقائي ‘ وكأنّي لم استبسل وأدافع بشجاعة عن سعادة وسلامة وجمال الأرجل البشرية، ليس فيّ سنتمتر مربع واحد إلا فيه طعنة شوكة أو ضربة حصى أو شرخ علبة صلصة .) ص34يتميز قلم عبدالغني كرم الله بالسخرية المريرة من سلبيات ابن آدم التي تصاحبه في قيامه وقعوده فيعتادها الآدمي ويجد لها العذر والتبرير. بل إن بعض تلك العادات البشرية الذميمة تصبح سجناً لبعض الناس حتى تدخلهم تجارب الحياة مآزق ومطبات كانوا في غنى عنها، وسعيد الحظ منهم من أخرجته التجربة من سجنه ، وعتقته من عبودية إدمانه السلبيات ، فيخرج إلى الحياة الرحبة من جديد كما الطفل .
يحكي قصة "كلبة فاطمة" طالب فاشل ، لا يجد فرصة للتسلل خلسة من الفصل ومغادرة اليوم الدراسي إلا فعل. لكن الطالب – وهو يتسلل من الحصة الخامسة ذات يوم ليمارس هوايته في تسلق شجرة النيم الضخمة قبالة السوق- يفاجأ بأن ناظر مدرسته المهيب يهرع إلى ذات الشجرة ، ويتسلقها، جالساً على أحد فروعها إلى جواره طالباً النجاة من كلبة فاطمة ! يكثف عبدالغني كرم الله الحدث في هذه القصة ‘ ويشحن التفاصيل الدقيقة بدراما تجعل التوتر عالياً من أول سطر في القصة حتى نهايتها ، فكأنما أريد لسياق القصة أن يجئ ساخناً وسريعاً وغارقاً في الكوميديا . فالقصة تبدأ بالذروة – حيث ساق الحظ العاثر ناظر المدرسة المتجهم ، والصارم ليكون طريدة كلبة فاطمة..فيخلع بنهاية القصة خيلاءه الكاذبة ويعود إلى صورة الإنسان فيه ؛ وقد كان قبل ذلك التاريخ شخصاً من طين آخر طين لا يعرف النكتة والحنان ومسح رؤوس الأيتام ، طين لا يعرف الخوف. كانت حياته محسوبة ، عبارة عن معادلة رياضية ، أي تغير في طرف يخل بالطرف الآخر، خطواته ونظراته ، صورة صارمة وبغيضة يقشعر لها جلد وعيون وشنط وخطوات وكراسات الطلاب.) ص51 يعطي الإيقاع السريع هذه القصة نفثاً درامياً عالياً ،فالمسرح (ساحة السوق) وهو يكتظ بالجمهور متعدد السحنات والمهن والأغراض ، يجذبه العرض الفجائي الذي جاء على غير موعد أو إنذار. تطلق الكلبة نباحاً داوياً وسط السوق وقد اختارت فريستها على مرأى من هذا الحشد. ثم تبدأ الكوميديا، ينسى الناظر صرامته ووقاره المصطنع ويعطي قدميه للريح. (وكلما اقتربت الكلبة من رجليه نسي جزءاً من الوجود المحيط ، من الباعة والنساء والشماسة وأهل الحي) ص53. تزداد وتيرة الوصف وروعة السرد صعوداً مع الحدث ، حتى لنشعر في حالات أنّ تكثيف السرد والعناية بالتفاصيل المتتابعة إنما هو جزء من معركة الجري والملاحقة بين كلبة فاطمة وطريدتها ناظر المدرسة الذي يبحث عن طوق نجاة: (أما أهل السوق‘ فالجائع نسي جوعه ، والحرامي أجّل شغله ، والصعلوك همدت رغبته، فقد تأجل البيع والشراء حتى يتفرجوا عليه ، حتى ينسوا همومهم وغمومهم للحظة صغيرة .) ص53 حررت كلبة فاطمة الناظر من فظاظته وكبريائه الزائف ، وأعادت لساحة المدرسة ضحكات الأطفال ولعبهم دون حذر أو خوف: (لقد خرج من سجنه بسبب الكلبة العجفاء، جنود الله التي لا نراها . لقد غسلته من كل فهم أو عرف قديم صبغ به ، إنه ينظر للحياة نظرة طفل حديث في السبعين من عمره . أما أنا فقد صرت بطل الحكي بالمدرسة . أدركت بأن الناظر مجرد إنسان، يخاف ويحب وينام ، مثلي إن لم يكن أقل مني.) ص61
لعبة التجريب في العمل الإبداعي فضاء مفتوح ، يصعب السيطرة على مجاذيفه. وفي هذه المجموعة جنس إبداعي يستعير شيئاً من طبيعة السرد القصصي وتداعيات الخاطرة. وهو ما اصطلح بعض النقدة على تسميته أحياناً بالنص ، وهي تسمية كما نرى لا تفصح عن دلالة وطبيعة هذا اللون من الكتابة. وعلى سبيل المثال فإن المقطوعات التي حملت عناوين : "الدجاجة أقوى من الأسد" و"أجمل سباق" و"رقص على طبول النسيم" هي أقرب إلى الخواطر وتداعيات الكتابة في لحظة تحرر من قيود الشكل والنمط. إنها محاولات لسبر غور ما في النفس من أمور قد تكون الكتابة الحرة من كل شكل أحياناً أقرب إلى استيعابها، الشيء الذي يجعلها تتأرجح بين السرد القصصى والخاطرة الشخصية.
ألفت نظر الكاتب – في ختام هذه القراءة العابرة- إلى بعض المآخذ التي أحدثت بعض الدمل والخدش الطفيف في جسد هذا العمل الجيد بكل المقاييس. وظني أنّ هذه الكراسة لم تجد حظها من المراجعة الدقيقة قبل ابتعاثها إلى الناشر .أقول هذا دون قصد للحط من لغة أديبنا الشاب ، فالقصص في مجملها كتبت بلغة أنيقة ، وغاية في الفصاحة ..لكن ما أعنيه يقع تحت دائرة الإهمال أو الاستعجال ، ولم أر في تجربتي المتواضعة شيئا أكب المبدعين على وجوههم مثل الاستعجال والإهمال. وأحسب أنّ جانب القصور في هذا العمل الإبداعي – على قلته – جاء نتيجة التسرع والإهمال. وردت بعض العبارات الفطير –على ندرتها - من حيث الصياغة اللغوية . ترد في الصفحة 37 عبارة تقول : ( أي قسوة هذه تلك التي تواجه بها الحياة النفوس!) يمكن للقارئ العادي أن يلحظ ببساطة تكرار أسم الإشارة مما يخلق ركاكة في التعبير إذ يقول: (...هذه تلك التي تواجه..الخ....). أو أن يقول في ص52فاقشعر نظر الناظر..) ، والقشعريرة مقرونة في الغالب الأعم بالبدن. أو أن يقول في موضع آخر: (في ترديد أغان سمجة ظل يحرمها عن فتيات الحي) ص73 ..والصواب "يحرمها على" وليس عن. أو أن يهمل الصفة تماماً بدل أن يتبعها الموصوف كما ينبغي ، كأن يقول: (يجر عبئاً ثقيل...) إذ ليس من عذر يحذف بمقتضاه تنوين الفتح عن كلمة ثقيل..فالصحيح إيرادها : عبئاً ثقيلاً كما تقضي بذلك ضرورة اللغة.أتسقط كل هذه الهفوات لحرصي على موهبة كاتب أتوسم أن يردّ - هو وآخرون خرجوا من صلب زمن الخيبة والإحباط الماثل - أن يردوا إلى دفتر الإبداع السوداني بعض العافية.
فضيلي جمّاع لندن

الثلاثاء، 6 أكتوبر 2009

صديق محيسي : عبد الغني كرم الله :قراءة لنصوص تبحث في عبث الوجود


مثلما استطاع الطيب صالح احداث ثورة في الرواية العربية عندما كتب موسم الهجرة الي الشمال وعرس الزين, ومريود والرجل القبرصي* في ستينات القرن الماضي , يطل علينا في هذه االالفية وجه لم يسمع به حتي الان الا قلة قليلة من المهتمين بقضية الابداع الفني في العالم العربي , هذا الوجه هو عبد الغني كرم الله الذي فاجأ الساحة العربية بمجموعته الاولي (الام ظهر حادة ) , الام ظهرحادة التي جاءت اقرب الي الرواية لطولها كان يوما طويلا عليّ قبل ان اغرق ثم افرغ من وضع الكتاب جانبا والاذان يعلن صلاة الفجر.

قبل الحديث عن الثورة التي ستحدثها مجموعة الام ظهر حادةعربيا وافريقيا وربما عالميا الان او لاحقا , يتعين علينا التركيز اولاعلي ما يمكن وصفه بنقطة تحول في السرديات السودانية التي احدثها عبد الغني, فمنذ المرحلة الاميبية للسرديات السودانية في اربعينات وخمسينات القرن الماضي, موت دنيا لمحمد احمد محجوب ومحمد عبد الحليم , والفراغ العريض لملكة الدار, وابراج الحمام لفؤاد احمد عبد العظيم, ذلك الافق الرومانسي الذي اطلت منه وبه الرواية والقصة القصيرة السودانية , فأن التحولات العميقة في مفاهيم الابداع بدأت دائما بعمل فني فيه روح المغامرة لاكتشا ف المناطق المجهولة في افاق الافكار و التخيل والتناول , فعلي صعيد الشعر مثلا كان جيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن ومحمد مفتاح الفيتوري ومحي الدين فارس وعبد الله شابو مكتشفون اوائل لمجاهل شعرية لم يكن في قدرة احد ارتيادها في ذلك الزمان, فهولاء الذين ثأثروا بثقافة الثورة علي المستعمر ونمت في وجدانهم روح اليسار الجديد , والرغبة في تخليص الكلمة من خمولها اللغوي وتوظيفها في خدمة قضية التحرر الوطني كانوا بمنطق تاريخ الحركة الثقافية ذاك واضعي اولي المداميك لمشروع حداثة ظل يتواصل تفاعلا و يتجدد قيمة حتي نهوض الواقعية الاشتراكية التي حملت خصائصها كتابات الاخوين ابراهيم واحمد عبدالحليم ( ايام الطفولة( رواية ) واصرار ( شعر) وكذا عبد الرحمن الشرقاوي في ( الارض ) وفتحي خليل في ( الجبل)وصلاح عبد الصبور, واحمد عبد المعطي حجازي, ومحمد مندور, ومحمود امين العالم , وعبد العظيم انيس في النقد, كان السودان يواجه رياح تغييرشديدة التأثير في نسيجة السياسي والاجتماعي ومن بين ما مسته تلك التحولات الثورية جيل جديد من المبدعين في الرواية والقصة القصيرة والشعر, فكان صلاح احمد ابرا هيم في ( البرجوازية الصغيرة) , والزبيرعلي وخوجلي شكرالله في (النازحان والشتاء)مجموعة قصص قصيرة وحسن الطاهر زروق( حسن وبهية )قصص قصيرة ,ابوبكر خالد بداية الربيع 1958 والنبع المر1960, و الطيب زروق في قصص سودانية 1975و الارض الصفراء قصص قصيرة1970ثم خرج من ذلك المعطف عيسي الحلو, مصطفي مبارك, محمود محمد مدني , وعثمان الحوري وعثمان حامد سليمان , وحسن محمد سعيد , ويوسف خليل وغيرهم من الاسماء, علي ان هذا التحول تجاه الواقعية الاشتراكية رافقته محاولات تجديدية اخري تمثلت في كتابات بشير الطيب وكمال شانتير معتمدين التيارالوجودي كخطاب ابداعي جديد تأثرا بزحف هذه الموجة التي اجتا حت اروربا في حقبتي الستينات السبعينات , البير كامي, وجان بول سارتر, وفرانسوا ساجان ,وسيمون ديبفوار في فرنسا ,والبريطانيان جون اوزبرن , وجاك كرواك اللذان اعلنا الحرب علي نتائج الحضارة الغربية .






تثير قضية الحداثة دائما اسئلة صعبة لاتجد الا اجابات متصادمة متزاحمة لاتفضي في النهاية الي حقيقة واحدة , وليس اعسرعلي القول من ان التجربة الابداعية يمكن استنساخها بمعني ان تحل روح روائي في روائي اخر, ولكن ايسر علي القول ان يتأثر روائي تأثرا كاملا ومعيبا بروائي اخر حتي يصل ذلك التأثرالي درجة وقع الحافرعلي الحافر.

ثمة ما يمكن الاتفاق عليه وهو ان الطيب صالح اخرج الرواية السودانية من حدودها الاقليمية الي افقها العالمي, لكن موسم الهجرة الي الشمال, وعرس الزين , ومريود مع اعتبارها علامات حدودية تفصل بين زمنين في روزنامة الحركة الروائية, الا ان ايقاع التطور يجعل منها تراثا اثريا يفتح الطريق امام مكتشفين جددا بادوات جديدة مثلما نحن اليوم امام مكتشف جديد هو عبد الغني كرم الله , فكرم الله يقع علينا جمعيا عبء الكتابة عنه حتي نقنع العالم علي سماع صوته , ولن ابالغ اذا قلت مرة اخري انه يعد ثورة في عالم الرواية السودانية والعربية والافريقية ايضا , وهذه وجهة نظري التي من المحتم الا يتفق معي فيها اخرون.

تعد رؤية عبد الغني تحولا هاما في عالم الرواية ا لسودانية والعربية والافريقية ايضا كما ليس من باب الشطح في القول اذا اشرنا الي ان رؤية كرم الله للاشياء ( الكائنات ) هي رؤية جديدة تماما لانجد لها شبيها في السرديات السودانية عدا ماذهب اليه بشري الفاضل عندما خلق شخوصا موازية للبشر وهو ماشرت اليه سابقا, فطوال مسيرة هذه السرديات كانت مادة الرواية , او القصة الفصيرة دائما هي الانسان باعتباره العنصر المكون للحياة والمحرك لاحداثها, ولم يرد كائن غير الانسان في معطم الروايات العربية, ثم العالمية , الا في حكايات كليلة ود منة التي اختارت نماذجها من الحيوانات, وهي احاج تبحث في مفاهيم الشر والخير في اسلوب فلسفي رومانسي .

ما يميز كرم الله انه اختار عالما شموليا عندما قررصنع مادته القصصية , وشمولية هذا العالم اقتضت منه كما ذكرنا ممارسة التوحد مع كائناته (مخلوقاته ) الحية والجامدة معا , فهو عبر رؤية فلسفية تقترب من البوذية وتتفوق عليها احيانا, نفخ في جوزي الحذاء روحا , كما فعل ذلك مع الطمي الريح , والشجر, والحصي , ( ثم جاءت رائحة النورس والسمك وبتلات البصل , ورائحة نعال ملقي في الخلاء , ورائحة عرق مالح من صدور عشرات المزارعين والعمال, ورائحة الاسمنت من حائط شاهق , وتجيء بعد ذلك روائح الروث , والسندس, ومصنع النسيج لتركب في سفينة الريح, هذه الصورالتي وردت في قصة( رائحة الطمي ) اكسبها القاص سمة كونها تحس وتفكر وتحلم كجزء من كون زاخر بقيم علوية تأخذ من الطبيعة ذلك المجال الواسع الشاسع صيرورتها كمظهر من مظاهر الحياة وهي في مسيرتها الموغلة في القدم , يماهي كرم الله بين السكون والحركة, وبين الصمت والكلام’ وبين النور والظلام في نسيج شخوصه, ويعطي هذه الشخوص بعدا روحيا بصبغة ربانية بأعتبار ان كل مخلوق هو صناعة علوية له وظيفة في الحياة, كما ان السيرورة التي يسبغها الكاتب علي الاشياء تستمد مادتها من اثر فلسفي يقترب ويبتعد عن الفكر الجمهوري الذي لايزال يتخلل خطابه العلوي, يقترب من هذا الفكر حين يبحث في كنه الانسان ذلك الكائن المركب من الخير والشر, والمتروك لافعاله يطابق بها اقواله, ويبتعد عنه حين يتعامل معه كحامل معرفي لحقيقة الاشياء في حركتها الارضية يتفاعل داخلها الخطأ والصواب , والسالب والموجب , ولاتقود الرؤية البرانية للشيء في ثباته الا الي خديعة معرفية لاتشرح الا مظهرها اذا حاولت نفي الجدل المادي الكامن في جوهر الظواهر الكونية .

( لماذا لا يقلد بني آدم إخوانهم الموتى في قبورهم، بل في قصورهم، أليس هم أحياء، بل في حياة أخصب وأمتع، أكتفوا بوطن صغير، حفرة صغيرة مظلمة كما يتراءى للعميان، عرضها السموات والأرض، استغنوا عن الماء والهواء والعطور، والأهم الأحذية، (ما أكثر الأشياء التي لا يحتاجها الإنسان)، آثروا باطنها الأمن، عن ظاهرها الحزين، الملئ بالحروب والعواصف والشوك، عرجوا إلى دنيا الدواخل، فالروح الإلهي منفوخ في الجسد، فالنائم في غرفة مظلمة وحارة، يحلم بالشمس، وبسهول خضراء، وربيع دائم، كذا القبر، بل أنضر وأجمل، إنها عوالم كثيرة، فلا تجعل من فانوس عقلك الواهن عصاه سير، راقدين كالجذور في خلوة القبر، في جنة القبر،(كفوا عن الرحيل.. كأنهم يقمزون لبني آدم بذلك)، أنهم أعظم قدوة ومثال لبني آدم لو كانوا يعلمون، "فما ليس فيك، فلا تبحث عنه في أي مكان آخر"، أعن هذا يسار إلى الطعان ).

يسيطر خيال الطفل علي رؤية عبد للاشياء , فالطفولة وحدها هي القادرة علي خلق عالم بعيد عن الواقع الارضي, والطفل حين يحدق في السماء يتحول عنده السحاب الي اشكال من الحيوانات , والرؤس المقطوعة لمخلوقات خرافية , ان محاولة الامساك بظل شجرة كما في قصة (الدجاجة اقوي من الاسد ) هو جنوح فائق لخيال طري يريد تحويل المستحيل الي ممكن .

في حمار الواعظ يظهر كرم الله كم هو مدهش ان يتحول الدين الي عادة يمارسها هذا الرجل كانما هو مكلف باعطاء رسالة ناقصة الي الناس البسطاء, فهو يتحدث في خطب الجمعة حاسا الاخرين علي الخوف من الله العزيز الجبار الذ ي لاتاخذه سنة ولانوم, بينما هو لايفعل ذلك في العلاقة مع حماره الذي يعذبه ليل نهار, يستنطق كرم الله في هذه القصة الحمارعبر منولوج داخلي يكشف به قدرة الحمير علي التفكيرفي احوالها وظلم البشر لها ويطابق هذا الحكايات الشعبية التي تقول ان الحمير تكون ساهمة دائما الي السماء في انتظار ان يعود احد ابناء جنسها الذي حمل ر سالة ا لي هناك , وقد عبر الفنان ابراهيم الصلحي عن ذلك في لوحاته الشهيرة تحت تأملات.

( انا حمار الواعظ وللحق لولا صبري الوراثي والحبل الذي يشدني الي جذع الشجرة في ظهيرة تلك الجمعة لدخلت ذلك المكان الكبير الضخم والذي تعلوه مئذنة عالية و شققت الصفوف الي المنبر, ثم ادير ظهري له , وبكل قواي ارفس الواعظ الذي يتكلم عن الرفق بالحيوان , ثم انهق نهيقا تسمعه عبر مكبر الصوت الانس والجنس تعبيرا عن ثاري , فاثار الصوت وكدمات العصي علي ظهري التعيس ) يمثل الواعظ الصراع بين القول والعمل, او ان كرم الله تعمد اسقاط البعد السياسي في حالة الواعظ وحماره

يقدم كرم الله نفسه في حوار مع جريدة الصحافة فيقول , ( في البداية كتبت الشعر وانا اعتبر الشعر ذروة التعبير ولا يأتي الا لماما او انعطاف وجدي ، لاحقا جاء التعبير بالسرد والسرد اناء اكبر لكلام اكثر من الشعر ففي السرد تجد نفسك امام كاهن تود ان تعترف له او وطن بديل تلوذ به او تخصيب للحياة بواسطة الادب "آلام ظهر حادة" من اسمها كانت معضلة بالنسبة لي ومن اكثر القصص التي استمتعت بكتابتها في هذه المجموعة قصة (آلام ظهر حادة) لان فيها اسقاط لفكرة التسيير وهي فكرة قديمة اعيت المفكرين والفلاسفة وهي هل الانسان مسير ام مخير والاجابة علي هذا السؤال تتناسل منها اسئلة اخرى وبطل القصة حذاء لاحول له ولا قوة تنتعله ارجل بشرية تسير به .
لدي عبد الغني ( اعتقاد قوي بأن الاشياء تتحدث دائما حينما تقوم في الثلث الاخير من الليل تجد ان الكون فيه سر ما تجد ان الاشياء ممتلئة حيوية وتشعر بهذه الحيوية عندما تري الاطفال وهم يحاولون ان يتحدثوا مع الحيوان والجماد وهم مستمتعون. الاية القرآنية «انطقنا الله الذي انطق كل شئ» الحديث النبوي عن جبل احد (جبل يحبنا ونحبه) وايضا السيد المسيح عندما لقي تلاميذه على قارب واحيط بهم فتكلم مع البحر فهدأ كما يهدأ الطفل فالحياة حمالة اوجه اينما تولي فثم وجه الله )


تمثل قصة ( كلبة فاطمة ) انهيار السلطة امام الخوف , وسقوط الكبرياء في لحظة الضعف الانساني , هذه اللوحة الساخرة والتي تدفع القاريء الي الضحك تبدو كفيلم سينمائي تجري مشاهده في سوق القرية ( في هذا الحشر جري الناظر بصورة تحافظ علي وقاره وعلي قدسية الراي العام وكلما اقتربت الكلبة من رجلية نسي جزءا من الوجود المحيط من الباعة والنساء والشماسة, كانت الضحكات الساخرة تصل الي اذنيه وتجرحه , ولكن كشرت الكلبة عن عداوة قديمة فاوصله الخوف حد الصفر بين ان يضع للراي العام بالا , وبين انقاذ نفسه وباي طريق , وباي اسلوب خاطيء ام صواب , رديء ام جيد , مضحك ام مثالي, اما اهل السوق فا لجائع نسي جوعه, والحرامي اجل شغله , والصعلوك همدت رغبته, فقد تاجل البيع والشراء حتي يتفرجوا عليه , حتي ينسوا همومهم وغمومهم للحظة صغيرة )

هذا المشهد الذي يصعد فيه الخط الدرامي الي اعلي درجاته يربط ربطا محكما بين داخل الشيء وخارجه , شكله ومضمونه , صوته وصداه , فالناظر الذي كان يذرع الرعب في قلوب تلاميذه يفشل في المحافظة علي جبروته , كم هي الفضيحة مدمرة للذات, وكم هي طاردة للوقار الذي لا يجدي نفعا اليوم , ان قصة كلبة فاطمة نستجلي فيها انهيار سلطة الناظر الغاشمة امام عبثية الكلبة التي اختارت ان تكون وسيلة تعلن بها موت انسان سلم نفسه الي المجهول , ثم ياتي كرم الله في الجزار ملك الغابة لتعيش معزة سعاد ماساتها لوحدها عندما تكتشف الخلل الكوني في علاقتها مع الجزار, فالجزار لا ينظر اليها الا بوصفها طعاما للبني ادم لكنها تري انها واهبة الحياة للاطفال وان من حقها ان تعيش وتحلم بالبوع الخضراء وتغازل تيس القرية , وان حليبها هو الذي يمنع سعاد واسرتها من العوذ الذي يؤدي الي الموت , في هذه القصة يغوص عبد الغني في مشاعر بدائية مبهمة ينفي فيها الغريزة التي تواطا الادميون علي ان يصفوا بها الحيوان , فهو يحدد سمو هذه الغريزة بالرغبة في الحياة بل ويلغي المساحة بين اردة العقل المفكر, والنزوع الطبيعي الذي يمكن ان يكون تفكيرا , ومن ذا الذى يستطيع ان يجزم ان الشاه حين تواجه الجزار لاتشعر بدنو الموت منها فترتعد ووتتغوط علي نفسها ؟, ان نظرات الخروف الزائغة حين تقترب السكين من عنقه هي اشبه بمشاعر السجين حين يساق في اللحظات الاخيرة الي المقصلة واذا كان السجين يتحول كله الي حلم بالامل في الانقاذ في اخر لحظة, فان الشاة تحلم بالروابي الخضراء ( وسوف اذهب الي العالم الاخر الذي لا اعرف عنه شيئا سوي انه نهاية الارض, ثم اسقط في هاوية سوداء مالها من قرار )

ان اذني عبد الغني تصغيان الي اصوات كونية لايسمعها الا هو, وتلك شطحة صوفية تمسك بتلابيب الروح التي تعذبها الاسئلة المتوالدة بلا نهاية ,فالكائنات والظواهر عنده هي اشارات تجريدية الي معان لايتركها الزمن ان تكتمل, وهكذا يستمر عذاب الاسئلة يسيطر عليه فيصبح الوجود كله امامه حركة لاتستقر علي حالة والا تبدلت الي نقيضها.

ليس الذي قمت به تجاه هذا الروائي الواعد هو دراسة نقدية, لان الدراسة النقدية تتطلب ادوات اكثر دقة في التعامل مع النصوص , طبيعتها , واصولها , ومحتواها , والي اي نتيجة ستنتهي , ولكن ما سجلته يعتبر بالنسبة لي تجربة شخصية خالصة, تجربة قارئء يبحث في الخيال ويري فيه مخلصا للبشر من ورطة الوجود بقوانينه الصارمة التي لايقدر احد علي تغييرها .

الأحد، 4 أكتوبر 2009

حمار الواعظ في باريس!!


يا ترى حين يسعى الواعظ وحماره في شوارع باريس، أي إثارة ستنطبع على خواطرهم (أقصد القارئة، أو القارئ)؟!!. لا أدري لم جرى خاطري (للقارئة في البدء)، أهو تناص للسيباب النحيف، القبيح، حين قال (ياليتني كنت ديواني، لأفر من صدر إلى ثان)!!. هل نكتب لقارئة متخيلة!! أليست الكتابة "مغرضة"، بصورة من الصور!!. من هي، (ذواتنا)، ألهذا غاب المتصوفة في (سلمى ولبنى وليلى)، كحواء الروح، حين تكون الأم هي الزوجة، قبل أنماط الخلق الأرضي.. فالحمار هناك ماض، أيقونة تعرض في "حديقة الحيوان"، وفي قريتي واقع معاش، كالمترو، والموبايل والساندوتش في باريس، لا غناء عنه، بل هو هنا، بطل في قريتي، وجندي مجهول هناك، بربك كيف يلتقيان؟ (أيضا بالنسبة للقاري الفرنسي)!! وشتان بين (قراءته كماض، وواقع يعاش، دافئ،كخبز جلب للتوء من الفرن)... أم أترك الحبل للقارئ، بلا وصاية، وأترك للخيال قدسيته، فهو إله، لا استحاله بجعبة (أي الخيال)، وتكفي اساطير اليونان وليال ألف ليله، ومائة عام من العزلة، على تمجيد الخيال الإنساني، العظيم، لدى المبدع، أو المتلقى، فهم روحان حللنا بدنا، بعد ظهور (إبداعية المتلقي).!! ولكني على شك، يراودني، رغم كل ذلك، هل سيحسون بأن هذا الحمار التعيس، يحمل على ظهره واعظا حنبيلاً، أم شافعياً، أم مالكياً، أم متصوفا؟ أم مجرد واعظ والسلام. وهل يدركون بأن كل هؤلاء الوعاظ (مسلمين)، إلا أن لا رابط بينهم، عبر التاريخ، سوى السيف والعداء والتكفير، والتربص، فلم تحترق بغداد إلا بسيف الاعتزال ضد القرامطة والمتصوفة والخوارج والتشيع، وحوادث الخرطوم الدموية الأخيرة، ماهي إلا فهمان للدين الواحد، لا أكثر ولا أقل!! والأحزاب المؤثرة في بلدي: الأمة والاتحادي والاخوان المسلمين، مرجعهم جميعا (القرآن والسنة)!! هل يتمثلون غرابة هذا الأمر، كما تجلت في المسحية (كاثوليك وبرتستات، وغيرهم، حتى (شيفرة دانفشي لبروان، والرغبات الاخيرة للسيد المسيح لجوزيه كازنتزاكيس)!.. من يملأ ما بين السطور، فكلمة حمار في قريتي تولد في ذهن أهلي البسطاء معاني أكثر من مياه البحر الابيض المتوسط، وتولد كلمة "الواعط" معان من التقديس، والكراهية، والبغض، لا تحصر، وأهمها (بالنسبة لي) : رجل لا يفهم الحياة، ووكل إليه أمر تنظيمها)، بربك كيف تنحك الثريا سهيلا!!. ويبدو نهيق الحمير، لمن يكره الوعاظ، أحلى من صراخهم الكاذب من على المنابر، ولو "أن أنكر الأصوات لصوت الحمير"!!.. هل سيحسون بحماري، يؤرقني الأمر، فالنائحة الثكلى ليس كالمستأجرة، وهل سيسمعون الاصوات بأذنه الضخمة التي تتوج رأسه الجميل، "إن كانت القراءة تعني التقمص الأصيل"، فسوف يسمعون صوت الصراصير كأنها رعد، حيث يتمثلون حاله، فحركة اذنيه في الذريبة، يزعجها وقع خطوات النمل تحت حوافره.. وبادرني السؤال التقليدي، لم أختار "حمار الواعظ"، من مجموعتي (آلام ظهر حادة)، كلها، وهي تحوي 12 نص؟!! بالنسبة لي هي قصة عادية، من حيث تكنيك القص، والحبكة، وغرابة الموضوع، ولكني كتبتها بحنان بالغ للحمير، فأنا أحبهم " 4 كيلو، من وإلى المدرسة الابتدائية، يوميا على ظهورهم"، ولكننا أكثر رأفة من الواعظ، وأقل ثقلا من كرشة السمين!.. لم لم يختار مثلا "رائحة الطمي"، أو " آلام ظهر حادة" ذاتها، صاحبة الاسم، للمجموعة... فعلا، يا لتعدد القراءات، .... وطبعا، لم أسرف في وصف (الواعظ)، لأني حين كتبتها، كان القراء الذين أكتب لهم هم، على التحديد (بدرالدين عثمان، وعبدالله عثمان، الشبلي، وأمين، وأحمد جون، ومحمد بركات، وسيد رجب، وحسن أبكر، ونسرين عجبان)، فقط لاغير، وللحق أكتفي بهم للآن، وهم أقرب اصحابي، ولذا لم أتوسع في وصف "الواعظ"، لأنهم جميعاً يعرفون شكله، وسمته، وروحه، وقدسيته، وتناقضه، ومأكله "له الولائم"، ومقعده "له الصدر دون العالمين"، وملبسه، وهنا لا تكفي سطور القصة كلها لوصف ملبسه "الأزهري" المميز، رغم الحديث النبوي "أن الله يكره على العبد أن يتميز على أصحابه"، ولو بالملبس، وكان الأعراب حين يزورن النبي لا يفرزونه، إلا بعد تعريف نفسه!!.. وملبسه هو عمامه بيضاء، بحجم غيمة تحجب شمس الظهيرة، وملفحة، وعراقي، وسروال، وفوقهم جلابية، ثم عباءة ملونه، وطاقية، وعلى كتفه شال مميز، أي ملابس لو فرشت على الأرض، لغطت أكثر من مائة شماسي، مشرد نائم في ميدان الامم المتحدة، أو حول أطلال سينما كلوزيوم، وكمبوني. فإين (هذا دمي خمرا، هذا لحمي خبزا)!!.. فهل تسمع (القارئة)، والتي تنطق اسمع الشيخ جادالله خطئا، مهما أنهكت لسانها "الأعجم"، وقع حوافر أرجله وفوقه الواعظ السمين، والذي اكتفى في تحصيله الديني على كتاب ألف منذ 7 قرون، ولم يزد عليه سطر كتب بعد ذلك، وهو يكفر، ليوم الناس هذا، من يدعى بأن الأنسان مشى على القمر "لأنه في السماء الخامسة"، كما أن النجوم حجمها كحبة العنب، كما يقول (الزمخشري)،لذا فهي تتهاوى في النيل الازرق يوم القيامة، كالحجارة الصغيرة، والويل كل الويل لمن يقول بأن النجوم أكبر من الأرض، وما عليها من جبال ومدن وحمار وواعظ، فالويل كل الويل له، كجاليليو.. حتما، حين كتبتها، لم يجري بخاطرئ قارئة فرنسية جميلة، تتعرف على حماري بلغتها هي، فهل تحس به مثلي، أم أكثر، أم ينثال بذهنها تصور لا علاقه له بحماري، والشيخ جاد الله، وهنا تبرز فكرة (مستويات القراءة والتأويل)، وموتي "موت المؤلف)، فليرحمني الله، مع حماري، بل وواعظي المنافق!!.. وأخيرا، هانذا اتجول بحماري وواعظه في باريس، بدلا من طائرة وفيزاء، بعد أن أظهرالهوس الديني خطورة على المجتع الدولي،بلا استثناء، فحرم الكثيرين من التجول في اصقاع الكوكب، والتعارف، ومتعة الترحال (من المحال)، وكفى الله ابن بطوطة (خير التجوال)... وللحق كدت اقع على قفاي، وأنا اتمعن وجه الواعظ وهو يتجول في باريس بحماري الذي خلقته من ضلوع حروفي، كما خلق آدم حواء (لا أصدق هذه الاسطور، فحواء أقرب لخلق آدم، وليس العكس)، وهو يخترق الشانزليه، وهو يتوارى خجلا، وكذبا، حين يجد فتاة وفتى في قبلة طويلة تحت اشجار الصبار، وأكاد اسمع وقع حوافره في بلاط حديقة لوكسمبورغ، وتعجب الفتيات من ملابس الواعظ، وعمامته، ولحيته، وحماره!! وتعجب دعاة حقوق الحيوان، بل أراه يقف في تقاطع في الحي اللاتيني، حين يرى تمثال فتاة عارية، وسوف يهوي بعصاه على التمثال، وحين تتكسر عصاه، لقوى التثمال، سيخلع عباءته، ويغطي عورة الفتاة، وهو معرض وجهه عنها، وهو "يستغفر الله"، من الفسوق والمروق!... للنحات والتمثال، والأصنام!!.. والفتاة العارية تنظر بدلال عجيب جه الشرق، وقد حطت بعض العصافير على كتفها، ونشوة الفنان في نحت الدلال بيديه، لم يراه الواعظ في ظل غضبه.. هل تحسون بمعاناة الفن التشكلي في بلدي، حيث التماثيل اصنام (وفي البال تحطيم تمثال بوذا في افغانستان، وتمثال الاستاذ محمود محمد طه في كلية الفنون الجميلة في الخرطوم، بداية التسعينات)، وجهان لعملة واحدة.. وحياة الواعظ، لاتخلو من سهره ليال طوال، ليس للذكر، أو وجع ضروسه المسوسة من أكل الولائم والبلح، ولكن لمعضلة فقهية جديدة، لم تمر على ذهن واضعي الكتب الصفراء القديمة، مثل (زواج وطلاق الانترنت)، وبيع الطيور في السماء وبين الاغصان، وحرمة صوت الفتاة من خلال الموبايل، وخلوة (الماسنجر)!!... وهو ينحرف من الشازليه، كي يبارك الزوجة الثالثة لحمدان الجزار، أو يفتى بحرمة بيع نجوم السماء، أو يلوي (شريعته)، كي يعيد سعد لزوجته بعد ثلاث طلقات.. وأن بيده إدخال الناس الجنة والنار، مثل جدكم حين قال (أنا الدولة)، ومن سار على الدرب وصل، والتاريخ يتشابه، هنا وهناك، فالإنسان واحد، حيث كان.. حتما القصة لم تكتب لواعظ بعينه، بل حصان طروادة، كان ماثل بذهني، وهو الشيخ جاد الله، رمز السلطة الدينية، وخاصة في العقدين الآخرين، فقد كانت السلطة الدينية مقصورة على الجامع وبعض المؤسسات، ولكن هاهي تهيمن على السلطة، وأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والدستورية، والإعلامية، ويصل سيفها وقهرها وسلطان للكل، ويطال تعسفها جميع الشعب بلا استثناء، وبقوة السلطة والثروة، ساقت الشعب للذل، والاستكانة، والتشريد والهجرة والجنون. فحين نضع هذا الواعظ بيننا وبين الله، أو بينه وبين أنفسنا، أو بينه وبين أي حقيقة أزلية، كمن يضع زجاج أسود، أو قل جدار معتم، بيننا وبين زهرة معطار، فنحرم لونها البديع، وعطرها الذكي. فالإنسان هو واعظ نفسه، بأعظم واعظ، عادل وعبقري، وهما (العقل والقلب)، وهما معك قبيل الميلاد، فهم أحق بالرعاية والتعظيم، والترقي..وفي البال مآسي :جلد الفنانين، حرق المكتبة الغنائية لعثمان حسين وعركي والكاشف، حرق الكتب والتلصص وجلد الفتيات بسوء الظن، والتلصص على الأسر والبيوت، وتكريس العاطفة الدينية الفجة، واستفزاز الاديان الأخرى، وإهانة الفكر، والإبداع الحر، وإثارة النعرات القبيلة والعنصرية، والدينية.. **** وأنا أعرف واعظي جيدا، فقد يساهر الليل كله، لأن معضلة فقهية أرقته، وهي تتعلق بأن كلب قطع الصلاة، أو رن الهاتف بأغنية (قاسي قلبك علي ليه)، أثناء تكبيره الإحرام.. فاليوم سوف يساهر حتى الصبح، في مختبره، كي يجد محلولا، ودواء ناجع ل: بيع الطيور في السماء وحرمة صوت المرأة في الموبايل.. و.. وفتاو أخر..

اللوحة : من أعمال السادات

الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

free counters

قراءة نقدية لمجموعة" الآم ظهرحادة" - بقلم د. لمياء شمت


الجزء الأول

حظيت المجموعة القصصية " الآم ظهر حادة" للقاص السوداني عبد الغني كرم الله,و الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر- بيروت, حظيت باهتمام نقدي واضح علي المستوى المحلي والعربي.

ورغم أن "الآم ظهر حادة" قد تبدو في ظاهرها كمجموعة نصوص أو ارخبيلات منفصلة, إلا أن القارئ لا يلبث أن يتبين أنها منظومة متكاملة يتحد فيها المضمون, و يشد بينها خيط المغذى والفكرة المركزية الواحدة, التي تتوسل بلغة مشعة بالإلماح و الومضات الدلالية بدرجة تتمثل وهج الشعر و كثافته و انخطافه. فلكل مفردة وزنها المحدد في النص السردي الذي لا يحتمل بطبيعته الزوائد أو التراخي و الاستطراد.

ومن نافلة القول أن لغة السرد تقليديا لم تكد تزد عن كونها حامل ووسيلة مباشرة لتحقيق زوايا المثلث الارسطي,حيث يتنامى الحدث باطراد تجاه ذروته, و ينتهي بلحظة الكشف أو التنوير التي يكتمل بها المضمون و يتحقق بها انطباع مفرد و آثر واحد. و بالتالي , وكما أسلفنا, فان اللغة تستخدم بالأساس كخام تشكل منه الشخصيات و تصاغ منه المواقف و الأحداث.

أما حديثا وبعد أن تحررت النصوص السردية من الفروض الشكلية و العوائق التقليدية, و أوغلت في التجريب ,فقد أصبح كل نص تجربة جديدة و بصمة خاصة في تقنيات السرد و الاجتراحات الفنية و الجمالية, بل والمحمولات النفسية و الوجدانية. وليصبح بالتالي للغة حساسية فائقة في سرد المادة القصصية, بل أنها تصبح أحيانا كثيرة ابرز عناصر المتن السردي. و لعل الكثير من القراءات النقدية قد توقفت مليا عند خاصية الاشتغال الجمالي المركز على النصوص ,مما جعل اللغة تقارب أن تصبح مادة القص و غايته معا. و يبدو ذلك صحيحا إلى حد كبير إذا ما تأملنا لغة مجموعة" الآم ظهر حادة" , التي تبرز فيها سمات عدة, نذكر منها:
* كثافة الإحالات و انفتاحها على احتمالات تأويلية متعددة. و يظهر ذلك في مقدرة الكاتب على استخدام التناص التحتي العميق لأقصى طاقاته الدلالية.
* حضور الرمزية كاستجابة إبداعية و توظيف سعة الرمز و مقدرته على حمل عبء الدلالات المكتنزة بالأفكار و الأسئلة.و يتم ذلك بتركيبة رمزية متوازنة تلوح بالمعنى الموارب و لا تجنح به للإغماض.
* الهجانة اللغوية الطريفة الناتجة عن استلهام المنبع الصوفي و المثلوجي و الفلكلوري الشعبي. حيث يفلح القاص كثيرا في نسج أمشاج الخيالي و الصوفي والفلسفي بأبعادها الرؤيوية لخلق حكايا غرائبية الأجواء, لكنها تبدو في ذات الوقت مألوفة و حميمة,إذ يقودنا فيها القاص بتأمل متمهل إلى طبقة من الرؤية اكثر عمقا , دون أن يوهن ذلك تلقائية السرد, وانسكاب اللغة.
* تخفف اللغة من لزوجة الطلاء الزخرفي و الإطناب البلاغي و الدثارات المجازية المتكلفة. و هنا أيضا يبدع القاص في طرح أفكار و رؤى مختلفة ذات أبعاد تأملية و فلسفية تتفرس في التجربة الإنسانية و ترصدها بدقة, بلغة هادئة أليفة و شديدة العفوية.
* الانفتاح على اليومي و العادي, ببساطة محببة تراهن على الاحتفاظ بالتفاصيل الصغيرة طرية و طازجة و حارة بروح الحياة اليومية التي تبث دفئها في مفاصل الكتابة.
.
*إعلاء البعد التأملي و الفلسفي في بعض النصوص, حيث تستسلم اللغة لغواية الخيال المجنح الممتلئ بطاقة الحلم و الجنوح,الذي يصعد الواقعي إلى مرتبة الغرائبي و الفنتازي, بسلم متداني الدرج يصعد بنا بترفق و تؤدة إلى معارج الخيال.
وفي منحى آخر, نحتاج أولا أن نعود لنؤكد على إن القصة القصيرة فن صعب رغم مظهره الودود, فهو يواجه تحدي اختزال عالم بآسره ليتضام في بضع صفحات معدودة.و لعل ذلك ما جعل هذا الجنس السردي إنجاز تكنيكي بارع ,يحتاج إلى معمار فني محكم و متساوق .
وعلى الرغم من أن الآم ظهر يصعب جدا تصنيفها أدبيا وفق المواضعات السردية المعروفة, كونها عصية على التأطير الشكلي, و غير خاضعة لقوالبه الجاهزة و شروطه المسبقة.فالأحداث مثلا في غالبية نصوص المجموعة تتخلق من فكرة فلسفية أو وجودية ينطلق منها النص ليؤسس نوعا من إعادة النظر في الإنسان و حقيقته. ومن هذه النقطة يراكم القاص الدوائر والخطوط , لينفذ من ثقب صغير إلى نصه الواسع حيث يتنامى السرد دافقا, مزدحما بالأفكار و الأسئلة التي يجهد القاص في أن لا يربك بها مجرى السرد ,الذي يتخذ في معظم النصوص مسارا سرديا دائريا, يبدأ من نقطة ثم يستدير مستعيدا بدايات الأحداث و تحولاتها .و كذلك, من الشائع في مجمل النصوص, أننا نتعرف على الشخصية المحورية من الجملة الأولى, حيث تحضر تلك الشخصية بضمير المتكلم كحيلة فنية يحتفظ بها القاص لنفسه بزمام السرد.و رغم التحفظ على منح صوت السارد سلطة الانفراد بالمساحة الأكبر في مجمل النصوص, إلا أن القاص قد اجتهد في استخدام هذه الذريعة الفنية للانسياب تحت جلد شخصياته و سبر أعماقها وكشف دواخلها و مكنوناتها.و من الملاحظ أن التركيز قد وقع جله على المونولوج الداخلي أو المناجاة, بينما اقتصر الحوار الخارجي على موضعين تقاسما العامية و الفصحى .وقد بدا واضحا أن استخدام الفصحى في الحوار قد قلل من قدرته على التأثير, و بالتالي أفقد الحوار قدرا من مصداقيته. على عكس حضور العامية العبقة برائحة بيئتها و النابضة بروح الحياة اليومية . إضافة إلى دور العامية المقدر في إحكام النسيج القصصي و تماسك بنائه الداخلي , وإسباغ المصداقية على الشخوص و الأحداث.
و يقودنا ذلك تلقائيا إلى بعدي الزمان والمكان, لنلاحظ أن عنصر الزمن يخضع بشكل كبير لمنطق الأقصوصة , تهندسه التقنيات السينمائية مثل الفلاش باك, و القطع و المونتاج لتثبيت اللحظة المعينة لابراز البؤر النصية الحساسة.أما المكان و رغم انه قد يبدو كحيز جغرافي محدود,إلا انه يتسع معنويا ليصبح فلكا شاملا.نحس فيه بحضور المكان الريفي القروي اكثر منه مكان مديني حضري. و رغم تبرم الأدب عموما بصلف المدينة و ضجرها و قيمها الزائفة ومبادئها المعطلة, إلا أن كرم الله يفلح كثيرا في تجنب الوقوع في فخ الثنائيات الضدية, و الصورة الرومانسية الساذجة للتقابل المنمط بين صورة المدينة و القرية.
و على مستوى الشخوص, لا يسعنا إلا أن نقف عند انتباهة الأستاذ صديق محيسى الواعية في رزنامة أستاذ كمال الجزولي,صحيفة الرأي العام, بتاريخ 10/4/2007, حيث يقول( رؤية كرم الله السردية للأشياء و الكائنات تعد تحولا مهما, إذ أننا لا نجد لها شبيها عدا ما ذهب إليه بشرى الفاضل من خلق شخوص موازية للبشر). وكنت قد أشرت في دراسة نقدية سابقة إلى أن سرديات بشرى الفاضل هي بالأساس قصص استبطان و تفلسف اكثر منها قصص أحداث و شخوص. و كرم الله في محاولته الإبحار إلى أفق مغاير يقترب كثيرا من تلك التخوم, و يشاكل العوالم البشروية بفلسفتها الطوباوية التي تحتفي بكل المخلوقات. حيث, و بكلمات الأستاذ محمد الربيع في الوطن القطرية:( يعيد السرد الاعتبار إلى جذوة الأشياء و للتفاصيل و يخرجها من عزلتها في الكون).
فمثلا يذكرنا"حمار الواعظ" بحمار آخر في مجموعة بشرى الفاضل "ازرق اليمامة" , يقاسمه التظلم من جحود الإنسان و قسوته, فيكون انتحاره غرقا بمثابة احتجاج جهير ضد رهق العالم.
و كل هذا لا يتقاطع مع حقيقة أن كرم الله قد تمكن باقتدار , و من تجربته الأولى, أن يرسخ فرادته كقاص استطاع ابتداع أسلوبه و حكائيته الخاصة الشغوفة باكتناه السؤال الكوني الأبدي. و قبل الانتقال إلى محور آخر, لابد لي أن اقف مليا عند الدمج الخلاق بين الواقعي و الخيالي و الفلسفي في نص " رائحة الطمي" , حيث الجدة في أن الأحداث و المواقف ترسمها الرائحة.حيث تحلق بنا تلك الحاسة في فضاء تخيلي واسع. ما يستدعي للذهن رواية "العطر", للألماني باتريك زوسكند و التي تحلل الطبيعة البشرية عبر بصمات الروائح.
و لنجمع خيوط ما ذهبنا إليه, يمكننا القول بان الحبكة رغم كونها قد تبدو رخوة, حسب المواضعات السردية, و أن الشخوص وفق ملاحظة حامد بخيت الشريف في السوداني "غالبا ما تتوقف عن التطور لمصلحة السرد", إلا أن القاص قد عمل على تعويض عن ذلك بعنايته الجمة بالتفاصيل, و دقة و براعة الوصف, و الخيال الطفولي المدهش الذي لا يرضى بأقل من أن يتلمس الأشياء و يتذوقها و يتشممها, بل و يفككها و يعيد تركيبها كما يشاء.ليمنح كائناته وجودا مبتكرا و حضورا أليفا , تبدو معه منخرطة في واقعها ,مستوية في مصائرها بادق تفاصيل الوصف والتصوير.و لابد لنا أن نقف هنا على رأي بشرى الفاضل في عموده تضاريس بتاريخ13/1/07
(ميزة كرم الله الأساسية تكمن في هذه العدسة المكبرة في مخيلته , التي تقترب من الكائنات و الأشياء راصدة لها بدقة متناهية).
و نعود مرة أخرى إلى إشكالية تصنيف الآم ظهر يعيننا رأي أستاذنا فضيلي جماع في الصحافة بتاريخ 1/8 عن لعبة التجريب السردية حيث تبدو نصوص كرم الله( اقرب إلى الخواطر وتداعيات الكتابة في لحظة تحرر من قيود الشكل و النمط).
ويستدرجنا ذلك لالقاء الضؤ على بعض المحمولات الفكرية و الفلسفية التي تشع و تتلامح بين ثنايا النصوص. و لعل أبرزها النفس الصوفي الذي يفعم أجواء النصوص بعبقه الخاص. و الفلسفة المتعالية(الترانسيندتالية) بثقلها الفكري كرؤية رومانسية طوباوية للعالم تمجد كرامة و حرمة الكائنات و حقها في الحياة. و تشمئز من السجن المادي و المعنوي الذي يرزح فيه الإنسان. فنحس و نحن نطالع النصوص بروح امرسون بميوله الروحية العميقة.و بمعاناة ثورو الذي اعتزل عالم اللهاث المادي , ليعيش مع المخلوقات الصديقة في كنف الطبيعة, في قلب الغابة في خلوة تأملية دامت لسنوات.و بحس والت وايتمان الذي اجمع نقاده على انه يتحد مع كل شئ, و لا يكف عن معانقة الاحياء و الموجودات من حوله. وبحضور استيفانز بإبداعه الرؤيوي و مقولته الرصينة: ( عليك أن تتمتع بطاقات غير عادية لتتمكن من رؤية العادي).و لا يسعني أن اختتم دون المرور بموباسان و رسالته الخطيرة لصديقه موريس فوكير بتاريخ 17 يوليو 1885 ,حيث يقول (إن الكاتب الذي يبهرني حقا هو من يحدثني عن حصاة أو جذع أو فأر أو مقعد قديم ). و ختاما فان الآم ظهر حادة قد قالت كلمتها, و أسلفت لنا يدها إبداعها,في محاولة للقبض على جوهر الرؤية الكلية النافذة, و طرح الرؤى و الأفكار, و التحليل و التفلسف, بمخيلة حكائية خصبة, و بأسلوبية مطمئنة,على صهوة لغة استطاعت أن تحافظ, عبر النصوص, على طاقة انسها و جماليتها و عفويتها وانسيابية دفقها.

الآم ظهر حادة -وأستعادة المخلوقات من أطمار الإهمال و النسيان و العزلة- بقلم د. لمياء شمت

نبدأ من غلاف المجموعة حيث تمكن كرم الله من قطف متعتين برمية واحدة, إذ يتزين الغلاف بلوحة لبول غوغان تنتمي إلى المرحلة الواقعية التاهيتية, وهي لمليحة سمراء تحت ظلال جذوع المانجو الباذخة, حيث الإبداع الغوغاني الفذ و السمرة والأجواء الاستوائية وثيقة الصلة بعوالم " الآم ظهر". اما على أعتاب النصوص السردية فمن اللافت أن العناوين تعقبها دائما تصديرات تحضر كمفاتيح دلالية و كتلويح استهلالي يضيء النصوص و يعين على مقاربة معانيها و ملامسة روحها.

و كما أسلفت في دراسة سابقة فان "الآم ظهر حادة"هي اقرب ما تكون إلى سرد جواني يهتم بالمشاعر و الوجدانات و العمق النفسي, اكثر منه حبكة وأحداث و منعطفات سردية و شبكات علاقات. فالقاص لا يكاد يكف عن التوحد مع المخلوقات متجاوزا ظاهرها إلى جوهرها, و منحازا لضعفها و جاهدا لاستعادتها من أطمار الإهمال و النسيان و العزلة, بنزوع ملح لتحويل الهامش إلى متن بطاقة إشارية خلاقة.

و تماما كما أن شاعر فرنسي كان قد تمنى لقصائده معان بعدد قرائها, فان هذه الورقة المختصرة لا تعدو أن تكون مجرد محاولة للقراءة.

الآم ظهر حادة

"الآم ظهر حادة ", وهي أول و أطول قصص المجموعة.والنص ذو مسار سردي أفقي يمتد خطيا بين أحداث شتى. و صوته السردي يمثله حذاء رجالي, يتقلب بين أرجل البشر ذوي النوازع المتناقضة, فيحتله جاثوم الكآبة و هو يسعى بين أقذار الحفر والبرك, وصهد الشمس ,و عفن الرطوبة. لكنه لا يكف في محنته عن مراقبة الكائن الآدمي السادر في غيه, و المنفلت تماما عن عقاله , وهو يهدر في عبثه الضار الحيوات من حوله دون أن تهتز له جارحة.فيتفجع الحذاء -المفعول به- الذي لا يكاد يملك من أمره شئ تنتعله و تقوده الأرجل الخواء, " قتلت برعم شجرة صغير, قد يملأ عبيره الشارع غدا, و يصبح شجرة ضخمة تصبح مأوى للعجزة و الشحادين". و مرة بعد مرة تتكرر المأساة ," ثم سرنا لينحرف فجأة فيدوس صرصورا هائما, كان سعيدا هو متجه لجحره حاملا على رأسه قوت أسبوع لعياله" ,و نرى النملة المدهوسة بالحذاء وهي تحتضر, " ثم خطا نحو موقف أبو جنزير, فاختلط جثمان النملة بقطعة ثلج ملقاة, فانتعشت روحها المظلومة في أول درج البرزخ".و يظل الحذاء يراقب البشر بروح أسيفة وبعين تحليلية نافذة و حس فلسفي مرهق بحزنه النبيل عبر أسئلة كاشفة تضئ دلالة النص و مغذاه " لم تقم الحياة على الصراع,على قهر كائن لكائن؟!" ,ليقودنا ذلك إلى لحظة الكشف النصية حيث الإنسان ليس إلا حذاء اكبر تمتطيه و تنتعله من القسريات و الاكراهات و الانكسارات ما ليس له به قبل.

و من اللافت في هذا النص السردي استخدام عنصري الزمان و المكان كوسيلة للإفضاء بالرؤى و الأفكار وعكس الخلفيات النفسية و الشعورية. فعلى سبيل المثال يجنح النص إلى قتامة السياق الميلودرامي و خفوت الايقاع لتصوير حالة العجز و المرض للجسد المنهك و الروح المبتلية بالسقم كصورة للارتكاس و الهزيمة. بينما يميل للمرح و الخفة بتسخير الوصف البارع ( كانت الأرجل تسير بوداعة و بطء, و كأن المشي غاية في ذاته, لم تكن تمشي, بل كانت تعزف على طبل الأرض إيقاعا دافئا و كأنه طرق مطر خفيف على مظلة موسيقي مسن). و كذلك مما يجدر ملاحظته توظيف طاقة الرمز لخلق نص متماور متعدد السطوح, و من ذلك استخدام تيمة ( الوتد) بكل طبقاتها الدلالية, و ظلالها و توتراتها في وعي القارئ, ليؤسس بذلك نص متماسك وذكي, قادر على طرح اعقد الرؤى ببساطة و روية.


كلبة فاطمة

و في هذا النص يكثف القاص الرؤية و يصوبها مرة أخرى تجاه الإنسان الذي يحتاج بشدة لأن تنزع قشرته الصلبة, لتسقط أقنعته فيكاشف جوهره و يستشرف حقيقته .و السارد مدثر التلميذ اليافع بمدرسة قروية, تمثل سجن ذريء تقمع فيه الطفولة و روح الاكتشاف على يد سلطة سادرة, يمثلها الناظر المترصن القاسي, الذي تأتي كلبة صغيرة عجفاء لتعريه من دثاراته و أقنعته الكاذبة.

و قد برع القاص في خلق خصوصية للإحداث و تثبيت حضور الشخصيات بحكي سلس يمتد عبر مسار أفقي صاعد ذو تزامن خاص, ترفده تقنيات التصوير السريع و الوصف الحركي غير السكوني, مما جعل للنص مناخا شديد الدينامية.و مما يميز النص كذلك تقنية المونتاج الزمني لتثبيت اللحظة و تحويلها إلى صورة فوتوغرافية, تقتنص اللحظة و تسرمدها_ كما في مشهد السوق- و كذلك الوصف الطبوغرافي للمدرسة الذي يعطي اقتراحات للنظر من زوايا مختلفة,كأن يستشرف المنظر من عل .
و يأتي هذا النص كواحد من النصوص التي تمثل فيها عين السارد أداة مهمة للقص , عبر مراقبتها الدقيقة لتطورات الأحداث و تحولاتها.لنرى عبرها تلك اللحظة النصية المفصلية التي تطارد فيها الكلبة النحيلة ناظر المدرسة مرهوب الجانب, في و صف كاريكاتوري تظهر فيه العناية الجمة بالتفاصيل التي تمتح من خيال طفولي طري يمثله صوت مدثر الذي يتصور أن الناظر الهلوع سيركض مؤكدا كروية الأرض,عبر سرد طريف لا يآنف القاص فيه أن يعرج بنا من درج التفلسف و الاستبطان إلى براح التفكه الساخر و الكوميديا الباعثة على الضحك ,"-تسلق جبال الانديز, فذابت من أنفاسه ثلوج القمة, فسالت فائرة في حقول البن, فملأ الفقراء البراميل و الكبابي من فيضانات القهوة الحارة,و لعن أصحاب مزارع البن ثقب الأوزون".
و في نهاية النص تكسر توقعات القارئ تماما, فالناظر لا يحنق في دخيلته على الكلبة التي عرته على الملأ, بل يحمد لها أنها قادته لخلاصه- "فقد سقطت من ظهره ملايين الأقنعة و الهموم و المظاهر الكاذبة التي كان يتصنعها لمجاراة رأي عام صارم و متحجر".

حمار الواعظ

و يتناول النص موضوعا يحتل موقعا حساسا في إطار يقع بين الدين كقيمة عليا و الوعظ المجاني الذي قد يتحول أحيانا إلى مجرد وظيفة و تقاليد شكلانية خالصة لا تمس الجوهر. و من فوره يستدعى النص للذاكرة رائعة غراهام غرين(السلطة و المجد) التي عرض فيها نموذج الكاهن الفاسد الذي يمثل رجل الدين السيئ الذي يشوه ,غير عابئ, وجه دين متسامح و طيب.و الفكرة أيضا وثيقة الصلة بما تناوله هوجو في (أحدب نوتردام). غير ان كرم الله يقدم الصورة هنا بأبعاد أخرى للواعظ المحروس بأكاذيبه, ووعظه التلقيني الخطابي المفلس , الذي يكشف شبقه و جوعه للسلطة و التحكم في مصائر مستضعفي القرى و النجوع الصغيرة.
و السارد هو حمار الواعظ الذي يشفق على أذنيه " من تقريع الخطب الجوفاء, و التي تخلو من أي حدس أو ذوق", والاهم أن الخطب تلك لا تشكل أي وازع للواعظ الذي لا يرعى جوارحه, فيتلصص مختلسا النظر لمفاتن الفتيات الصغيرات, و تنطلق حنجرته في خلوته بأغان سمجة رديئة ظل يحرمها على فتيات الحي , بل و يصب جام ظلمه و استبداده و قسوته على كافة المخلوقات حتى النباتات, دون أن يستثني من ذلك حماره الصبور , الذي يهلكه الضرب و التجويع و صهد الشمس فيتعزى بأن "سيأتي يوم, تشهد كل الأشياء بما جرى لها, وستصطف معي طوابير من المظلومين الذين سحقهم الواعظ بغير ذنب, .... طوابير من الحشرات و النمل و القمل و القطط و النباتات و الجراد و أوراق الشجر و الذباب و العقارب".
و عبر توظيف مقتدر لتقنية المونولوج الداخلي, يتمكن القاص من الإمساك بالعصب المحوري للأحداث, ليصور بدقة سقطات العقل السلطوي المستقيل. ليذكرنا إدراك الحمار العميق للواقع من حوله و حلمه العزيز بالخلاص العظيم بمزرعة الحيوان لجورج اورويل,حيث تناضل الحيوانات لتطيح بالسلطة البشرية الغاشمة, و تصوغ معا نشيد ثورتها الرسمي:

ستزول الحلقات من أنوفنا ** سنرمي بالسروج من ظهورنا
وستصدأ المهاميز و الشكائم للأبد** لن تلسعنا قط السياط القاسية


رائحةا لطمي

وهو نص ذو سرد غرائبي يتميز بغلبة الفضاء الشعري على المونولوج الداخلي ,فينثال متخففا من الخضوع التقني و الأسلوبي. و السارد روح أثيرية شفيفة تسافر على سفينة الريح.وتعلو رائحة الطمي على كل رائحة بأنها لا تسافر فقط عبر الريح, و لكنها أيضا تخترق حجاب الأجساد و الجسوم لتنفذ إلى الأرواح و السرائر فتنفض عنها سخام الأسى والهموم "بدت الرئة و كأنها جدار فرن أسود, غسلت بسرعة البرق هذا الروث الروحي و أخرجته مع الزفير, ثم أخذت أتسلل عبر دمه إلى العين ووجدتها حزينة موجعة فغسلتها من شوك المناظر الفاسدة" . و النص مكتوب بحساسية خاصة و بلغة تقترب كثيرا من تخوم التجريد, مستدعيا للذهن أجواء كتابات أمريكا اللاتينية, حيث المزج الخلاق بين الواقعي و المتخيل و تداعيات اللاوعي و تراسل مدركات الحواس بنكهة كاريبية تخرج النص من طقسه الأسطوري إلى أفق الحياة اليومية.


الجزار ملك الغابة

أما السارد هنا فمعزة بروح و غيرية أم حنون ترعى السعدة على أطراف النهر بفرح غامر, لتدرها لبن سائغ لصغار الآدميين بنبل عظيم ,و ترفع رأسها مطالبة بحقها في الحياة و اعتراف الإنسان بحرمة الذوات الأخرى,و تمضي مستبشعة للبؤس و الادقاع الروحي و القسوة الآدمية,تحلم بالخلاص, تماما كحمار الواعظ , " تمنيت أن يهبني الله جناحا مرفرفا فأهرب للسكن في السماء مع الملائكة....طوبى للأغنام التي ترعى هناك , فلا يكدر صفوها ساطور أو سكين" . و عبر مراقبة المعزة للأحداث نستطيع أن نتعرف على شبكة العلاقات, و الخلفيات الاجتماعية و الظروف الحياتية لأسرة سعاد, الأنثى الكسيرة التي ترزح تحت وطأة الفقر و الحاجة.فلا تجد إلا أن تنذر معزتها لسكين الجزار لقاء حفنة مال يسبل عليها الستر و يطعم أفواه صغيرة جائعة.
و باستخدام تقنية التركيب و المونتاج يتمكن القاص من ربط وقائع مختلفة و دمجها في إطار زمني واحد بإبطاء الزمن السردي أحيانا لتسخيره كمرآة لواقع حالك, تقيم فيه المعزة مقارنة فاقعة مخزية بين بشاعات البشر ووحشيتهم, وبين إنسانية السوام " التي لا تسرف و لا تتكبر ولا تكذب ولا تتزيا بغير جلودها". ليسطع أخيرا المغذي الذي ظل مبثوثا في سماء السرد عبر النصوص, وبخلاصة مطابقة لما أدركه الحذاء في النص الأول, تيقن المعزة بأن البشر ليسوا بأقل ضعفا وعبودية منها , فهم أيضا ذوات مسترقة و مكبلة بعشرات الحبال و الأوتاد.

استدراج الفراشة لعرشها المجيد

وهو نص استفزازي من طراز رفيع لا يكتفي فيه القاص بان يلغز و يرمز و يؤمي, بل ينزع الغطاء مباشرة عن موضوعه باحتدام زاعق يآنف التعمية على جذريته الحاسمة.
و تسلط بؤرة الضؤ على الأنثى في متاهات القسوة الذكورية. لنرى بائعة الشاي التي تتعرض لهجمات معنوية عنيفة تجاه إنسانيتها و انثويتها, حتى ليصبح العنف المادي من ركل و سحل و امحاء هو عين الرحمة " و لقد قام الجنود بدورهم بأكمل وجه, فبأحذيتهم الضخمة كسروا في لمح البصر كل ممتلكاتها من الكبابي و الفناجين, أما الضابط, رجل المهمات الصعبة, فقد رفس بكل ما يملك من قسوة, الكانون في وجهها, فتوضأت أقدامها المتعبة بماء حار كان على مشارف أن يكون شايا أو قهوة".
و النص يفور بالأسئلة الواخزة الكاشفة التي ترفع الغطاء عن المطمور في الصمت و الانكار,حيث يتخلى القاص عن حذره في المقاربة كما أسلفنا و يطرق الموضوع مباشرة, ليفكك العنف و يفضحه و يفرغه من مبرراته, محتالا, في بعض الأحيان على سلطة التابو بانتخاب مفردات ذات طاقة دلالية و إشارية عالية "أما الضابط...فقد ركلها في رحمها, مصدر رزقها المبارك, فتكسرت أضلع و أرفف دكانها الوحيد".
و بدقة متناهية في الوصف و اعتناء جم بالجزيئات نرى الأنثى وهي تجر إلى وئدة مصير قاتم ترسمه النزوات السلطوية و الرغبات الذكورية المريضة, لتتقلب( المهيضة) بين أنياب القسوة و القهر, حتى تدركها نعمة الذهول و الحتوف الرحيمة.

الدجاجة أقوى من الأسد

وهو نص يتوغل بكامله في حقول مقولة برنارد شو " هل الإبداع إلا استدعاء متعمد للطفولة !! "
و يفلح القاص هنا في تمرير لحظات عميقة الرهافة,عبر سرد جواني البعد, يرفده خيال غض معجون بالطفولة, حتى لنحس بان هناك اكثر من خيط يمتد بين النص و بين واقع ما لمبدعه.حيث تتحرك الذاكرة صوب جذورها باستخدام آلية الاستعادة في إطار تذكر تحليلي نفسي وجداني يمثل صعودا إلى سطح الوعي ليتوج الطفولة كمحطة هامة ساهمت في تغذية وعي القاص و تكريسه كاتبا .

و يرتكز هيكل النص على تحليل الأفكار و الاتجاهات للكشف عن الأعماق النفسية والانعكاسات في وعي الطفولة ووجدانها و عرصات رؤاها, بلغة عفوية متوهجة بانفعالها الخاص, ترد الحياة إلى عريها الأول بلا أقنعة و لا دثارات أو أحكام مسبقة, حيث يبلور القاص رؤيته باستخدام مقتدر لآليات التذكر و الاستدعاء و الاسترجاع التي تمتد لتصف الفيض السمعي لنقاط الماء الساقطة من قعر الزير "إنها اضال أمطار في الكون, و بنقطة يتيمة طوال اليوم بلا رعد أو برق أو ملل, سوى ذلك الدوي الحنون, و الذي يثير في الدار الساكنة غموض كنه الوقت" .

جزيرة النمل

يمتد خيال القاص الذي يتفقد الموجودات من حوله بعناية جمة,سواء كان ذلك حذاء فاغر أو بصلة مطعونة أو حصاة منسية على قارعة الطريق بمتخيل مفتوح على إمكانيات تأويلية متعددة,ليطرح عبر هذا النص ,حيث تتزاحم الأسئلة الوجودية المقلقة على ضفاف الروح, فكرة الوحشة العميقة في وجود معضل.و السارد حصاة رهيفة حانية تلوم ذاتها " ذلك لأنني أدميت في حياتي وجه طفل يتيم, ورأس عشة المجنونة, حين قذفني الأشقياء نحوهما,بلا حول مني و لا قوة, فأيدي بني آدم هي التي ترسم مصيري " لتجعلنا ندرك من فورنا المقارنة الواخزة بين حجر إنسان و إنسان حجر, مستدعية المقابلة القرآنية بين القلوب الصم و الحجارة المتشققة لينا و رحمة. و لكأن صوت المعري المتعثر في وحشته الوجودية يمس روح النص:

ما منهم بر و لا ناسك إلا إلى نفع اليه يجذب
افضل من أفضلهم صخرة لا تظلم الناس و لا تكذب

حواس مغبرة

وباستخدام الرمز القابل لامتصاص الدلالة نتعرف هنا على الكلب فوجي الخائف الوجل حتى من انعكاس ظله على الماء, في مقاربة هادئة عميقة لروح مدثر اليافع المستعبد للآخرين بإشفاقه الجم من اهتزاز صورته في مرآتهم. مما يجعله يكاد يقارب مأساة مبدع لوحة الغلاف بول غوغان و هو ينعي هوانه و قلة حيلته ووجله من أحكام الآخر بمقولته الشهيرة التي أطلقها في أقاصي البحار الجنوبية في جزيرة دومنيكيا النائية ( انتظر هنا كفأر في برميل في وسط المحيط).

اجمل سباق

وهو نص قصير مسكوب بأقل قدر من الكلمات و اكبر قدر من الحساسية التي تجسد الطفولة الحرة المنطلقة إلى معانقة الحياة و تفقدها بعين عذراء دهشة تنفض الغبار عن المدفون تحت سطح المألوف. و بخلق فضاء حميمي خاص يستطيع القاص أن يحول النص من مجرد إطلالة على مشهد عابر لأم و طفل على الطريق, إلى لوحة صغيرة يضع لمساته بحنو عظيم على كل رقعة فيها, مما يعين على الإحساس بمبلغ العناية والبراعة التي يتفحص بها القاص أدق التفاصيل سبيلا للولوج للداخل.
"أمه لا تعير اهتماما للأشياء النفيسة التي تسبي عينيه الشاعرتين,انه مشغول بنفائس الأرض و كنوزها, حشائش و حشيرات و حصى و يرقات...غارق حتى أذنيه في انثيال الحياة أمامه".

توبيخ الحبيب

تماما كما يؤمن الناقد الفرنسي المثير للجدل راسكين بان الإبداع هو ذاك الذي يضع الروح أمام حشد من الأفكار الرفيعة التي توقظ الشعور بالعلو و التساوق و الصفاء فان سارد هذا النص و هو كتاب مهجور يتوسل لقارئه أن يلج عبره إلى عوالم بكر و فراديس متاحة و متع دانية.
كإشارة إلى طقوس القراءة كفعل إدراكي مقدس من جهة و التلقي الواعي كحبل للنجاة من جب اللاحياة " ها أنت ملك نفسك, متوجا في كينونة الزمان و المكان الداخلي, سابرا أعماقك, منصرفا عن شروخ الأفاق, تصحو بفعلي في دواخلك أبخرة مقدسة, تحوم بداخلك برقصات مخمورة و ملونة و مضيئة بالإشراق و البهاء و الارتعاش المبارك".

رقص على طبول النسيم

و باتجاه سردي وصفي غالب على طبيعة السرد , ترخي الأسلوبية الشعرية سدولها على فضاء النص, حيث يواجه السارد مشهد تصاعد الدخان المتراقص من عود بخور بعين متأملة نافذة على نحو يخرج الأشياء من مألوفها و يغلفها بالغموض والسحر " وحين استسلم البخور كليا, أطلق النسيم عنان جنونه المكبوت,عنان خيلائه بذاته, تلاعب بجسد البخور مظهرا قدرته المذهلة على الرسم و النحت و التصميم البكر, ممسكا عصاه في قيادة أوركسترا الليونة المطلقة, جوقة من السحر و المجون و الدهش". لينفرد النص بان القاص يذهب فيه للسرد بشروط الشاعر الذي يسمح لكائنه اللغوي بالتحليق الطليق في سماء النص, بشلال من الكلمات ينهمر راعشا تماما كضربات فرشاة تشكيلي يبحث عن جسر ما يصل المرئي باللامرئي.أو كما هو والت وايتمان في مفازاته المخاتلة ينشد : لحظة من عذوبة صوفية, ملامسة شيء لامرئيمكيدة عاشقة بين الهواء و الضؤ.