الجمعة، 9 أكتوبر 2009

من مجموعة (الام ظهر حادة) كلبة فاطمة. كيف قررت كلبة فاطمة إلغاء فزع الطابور الصباحي وحصة التسميع ؟!!




أي أعجوبة بعد هذه، كنت أهرب من مدرستي منذ الحصة الخامسة، وأتسلق شجرة نيم ضخمة بالسوق قبالة طابونة طيفور، ولم أكد ألتقط أنفاسي من مشقة تسلقها، حتى كان جاري، في الغصن المقابل حضرة الناظر!! وهو حتماً لم يتسلق الشجرة من أجلي، فقد كان يكفيه أن يصيح آمنا من ظل الشجرة المتسخ ببقايا نبق مبلول باللعاب، ومسروق، ومنغرس في التراب، ويسقط من عل، كما لو أن شجرة النيم تثمر نبقاً مأكولاً " أنزل يا ولد يا حمار .. أنت طالب ولا غراب" !!.


يبدو السوق، قبل الحدث الكبير، وخاصة إذا كنت متسلقاً شجرة النيم الكبيرة، مثلي ومثل الناظر، عبارة عن شارع وسيع، ضيقته البضاعة المفروشة على جانبية، أكوام من النبق، ذكرته في البدء لحاجة في نفس "مدثر"، وأكوام الطماطم والعيش والقلل، فيبدو الشارع وكأنه جدول متعرج صغير، هادئاً، الهدوء الذي يسبق صراخ الشحاذين والباعة وضجر الازدحام ومساومات الأسعار والتعارف، وخلو جيوب وامتلاء أخرى، وسرقة ثالثة ورابعة ويبدو شكله العام إنه قد توثب لحرب البيع والشراء الأزلية.


أما المدرسة، قبل الحدث السعيد، فتبدو من أي طائرة تمر، وهي نادراً ما تمر، حوشاً مستطيلاً، فصولاً متراصة، وميداناً جنوبي للطابور الصباحي، وشرقي للكرة الطائرة، ومزرعة صغيرة شمال الفصول، وتبدو المدرسة، من على ظهر حمار، عبارة عن سور متآكل، تحفه أشجار تمر الهندي والموسكيت، وباب سري لأمثالي المتأخرين في الحضور، والمبكرين في الإنصراف، كما تبدو المدرسة من داخل الفصول، عبارة عن أعداد هائلة من الطلاب، لايربط بينها الشكل أو الملبس أو الذكاء، بل شئ واحد أقوى من الرابطة الأيونية بين العناصر الكيماوية، وهو الخوف الجماعي العظيم من حضرة الناظر، ويلفها الصمت، وكأنها ثكنة عسكرية، ولو لمست هواء الفصل، بل الفصول، بل ساحة المدرسة، لوجدته حاراً مشبعاً بالخوف المنبعث من زفير مئات الرئات المذعورة، مناخ خانق، لا تترعرع فيه اتعس الجراثيم الطفيلية، التي قيض لها أن تعيش في أمعاء الفيلة .


أما السوق بعد الحدث السعيد، يبدو وكأن قنبلة ألقيت فيه، أو ريح صرصر من لحم ودم وكرش ونظارات داست على الأخضر واليابس، فالرواكيب قد أنهارت، والطماطم عفصت، أما المدرسة بعد هذا الحدث، فكأنها كرنفال فرح، فالطلاب يركضون بين الأشجار، ومشاغباتهم يتردد صداها بين الفصول، حتى أذن الناظر.


إن ما أقدمت عليه كلبة فاطمة يفوق الوصف والتصور، كسرت حاجزا كبير بيني، بل بيننا وبين الهرم الأكبر، حضرة الناظر، مدير مدرسة العسيلات بنين المتوسطة، حاجز أسمك وأعتى من سور الصين العظيم،، ما كان سيهدم ويتحطم مثل سد مأرب غير مأسوف عليه لو لا بلدوزر كلبه فاطمة، أنيابها الحادة الشريرة، من يتصور إن الناظر، بسمته، ووقاره، والخوف العميق منه، والمترسب في أعمق أعماق قلوبنا وعقولنا وعيوننا، قد ولى بلا رجعة، تلاشى مثل حلاوة قطن، أن ما قدمته لنا كلبه فاطمة يستوجب الشكر مدى الحياة، ومن الآن ولاحقاً لن يصيب صلبها شر من قبلنا، لا حجر ولا عصى، بل سنؤثرها على أنفسنا باللحمة والطعمية، وسنمسح بحنان بالغ على رأسها الصغير الشجاع، بل لو كان الأمر بأيدينا لنصبنا لها تمثالاً، مثل جاليلو ونيوتن وفراداي، الذين قدموا أجل التضحيات من أجل الحركة الطلابية.


وسأقص لكم المشهد، كما هو، لعن الله شاهد الزور، وسأنقل الواقعه كماهي، صورة طبق الأصل، ولو كان نباحها في لساني، وملامحها على وجهي، وسرعتها داخل سيقاني، لواصلت سك الناظر حتى آتي به من الجهة المقابلة إلى نفس المكان، ألم يقل لنا بأن الأرض كروية، البيان بالعمل، بالجري أمام كلبة هزيلة، تخيلته، وقد خرج جارياً من حدود السودان، وبعد بريهات خرجت الكلبة وراءه، ودخل صحاري تشاد، ومالي، وكأنه يجري في حوض من الصمغ، رجلاه أثقل من حجر الطاحونة، وسبح الاطلسي، عارياً فماتت الأسماك من سخونة جلده وعرقه، ورأته الروم والفرس، فضحك عليه بالسرياني والبرتقالي،، وتسلق مرعوباً جبال الانديز، فذابت من أنفاسه ثلوج القمة، كما تذوب كتلة الشحم في الطوة، فسالت حارة فائرة في حقول البن، فملأ الفقراء البراميل والكبابي من فيضانات القهوة الحارة، ولعن أصحاب مزارع البن ثقب الأوزون، وحتى يكون كلامه عن كروية الأرض لاحقا كلام يقين، فما أكثر الأكاذيب التي ملأ بها رؤوسنا وفضحتها سكة الكلبة، الناظر يجري بكل قوته من كلبه فاطمة، منظر قد يبدو شبه عادي، ولكن حين تتصور شكل الناظر، فسيبدو الحدث لك، مثل فيل يولي الأدبار مرعوبا، محاولا إخفاء جسمه الضخم خلف مؤخرة نملة، فالجسم المرعوب لا يعرف المنطق، وبأن الجبل أكبر من الإبرة، وبأن النبق والطماطم تؤكل، و لا تعفص بحذاء الناظر المعفر بروث البهائم والمرحاض، وبأنه من المسلمات، إن الكلب أسرع من صبيان بني آدم، ولكن لكل قانون استثناء، ولكل قاعدة شواذ، وإلا فما الداعي لأن يحتمي الناظر ببطيخة، بل شعرت بحيرة البطيخة وهي تسأل نفسها، كعادة كل المخلوقات المحزونة، وقد سال دمها الأحمر الحلو من خربشة مخالب الكلبة " لم خلقت، ليحتمي بها الناظر، أم لتستمتع بحياتها، أم لتؤكل كتحلية ؟" ليتكم كنتم معنا في الطابور الصباحي، لتقارنوا بين الصورتين، صورته أسداً يتبختر في عرينه، وصورته وهو يبحث في السوق عن بيضة دجاجة لينحشر فيها، ويزاحم السواسيو في رحمها الكروي الأبيض الضيق، وأقسم صادقاً، بحكم قشعريرة جسمي حين يقترب الناظر مني، بأن هذا السوسيو المحزون، لو قدر له أن يعيش بعد هذه المزاحمة، فلن ينبت له ريش ولو عاش عمر نوح، خطواته الموزونة في الطابور، ونظراته من خلف النظارة، يتطاير منها الشرر، حين ينظر إليك، تحس بتيار من أرواح قطط تتلوى وتلفظ أنفاسها في جسدك، وبأنك محصور في ركن ضيق محدقاً في مرزبة مسننة ستهشم رأسك، وكأنه مخلوق من طين خاص، يخلق منه المديرون والرؤساء والعساكر والمجرمين، طين لا يعرف النكتة والحنان ومسح رؤوس الايتام، طين لا يعرف الخوف، كانت حياته محسوبة، عبارة عن معادلة رياضية، إي تغير في طرف يخل بالطرف الأخر، خطواته ونظراته، صورة صارمة وبغيضة، يقشعر لها جلد وعيون وشنط وخطوات وكراسات الطلاب.


بعد الحدث السعيد، والأمور نسبية كما يقول مستر انشتاين، فالفصل جنة لمن يأتي من مكتب الناظر، وجهنم لمن يأتي من بيته، بعد نهاية الدوام، أو قبيل نهاية الدوام، فأنا، وتوخيا للحق، أهرب من الحصة الخامسة بالباب السري، فتحة مخبأة بشجر الموسكيت، إلى السوق، لسرقة النبق، وأتسلق شجرة النيم الضخمة حتى يمر الناظر، لأنه يخرج من الحصة الخامسة، مثلي، لشراء حاجيات البيت، فخرج الناظر كعادته لشراء حاجيات البيت، وفي السوق رأته كلبه فاطمة، كما ترى كل الخلق، ولكنه أثار فيها جوى، بحجم لحمه المكتنز النظيف المعطر، يا ترى هل أدركت الكلبة بحاسة الشم الحادة بأن الناظر هو سبب رشقها اليومي من قبلنا، ننفس المكبوت، وهذه الحجارة أصلاً موجهة نحو قفا الناظر، ولكن لخوفنا العاجز، اتجهت لصلب كلبه فاطمة، عينه على الفيل، ويطعن في ظله، فأرادت الكلبة أن تجتث سبب شقائها من الجذور، فالناظر أولى بالعداء، هكذا تقول الحكمة، وعلم النفس، مجرد أن وصل حضرة الناظر إلي السوق هجمت عليه الكلبة، أطلقت الكلبة نبحة عالية، وكأنها تنبه أهل السوق للكف عن البيع والشراء ومتابعة المسرحية التي جاءوا من أجلها، فلكل حيوان الحق في تضخيم اهتماماته، فأقشعر نظر الناظر، حين تيقن بأنه المقصود بهذا التهديد، وفي البداية كان يوزع نظراته بين الناس وبين الكلبة، كيف يجري ؟ والشارع يضج بالبشر، إنه لا يصلح إلا للبطء ، مزدحم بالخلق، وحتى تقطع الشارع عرضياً فقط، فإنك سوف تسمع ثلاث آذان للصلاة، وتتعرض لعشرة محاولات سرقة، أغلبها ليد دخلت جيبك عن طريق الخطأ نتيجة الزحمة، أو أدخل شخص رجله في شرابك إن كنت أفندياً، لذا وضع الناس قروشهم في مكان غريب، كما وضع الله فرج المرأة بين الرجلين، وربطوها بالسراويل، فالأجساد هنا تتلاحم، تلاحم العرايا في غرف النوم في عز الشتاء، في هذا الحشر جرى الناظر بصورة تحافظ على وقاره، وعلى قدسية الرأي العام، وكلما اقتربت الكلبة من رجليه، نسى جزءاً من الوجود المحيط، من الباعة والنساء والشماسة وأهل الحي، كانت الضحكات الساخرة تصل اذنيه، وتجرحه، ولكن كشرت الكلبة عن عداوة غير متوقعه، فأوصله الخوف حد الصفر، بين أن يضع للرأي العام بالاً، وبين انقاذ نفسه، وبأي طريقه وبأي أسلوب، خاطئ أم صواب، ردئ أم جيد، مضحك أم مثالي، أما أهل السوق، فالجائع نسى جوعه، والحرامي أجل شغله، والصعلوك همدت رغبته، فقد تأجل البيع والشراء، حتى يتفرجوا عليه، حتى ينسوا همومهم وغموهم للحظة صغيرة، توقفت حركة السوق الواقف والمنحني والجالس، وكأنهم في صوره فوتوغرافية بلا حراك، فقد استجد موضوع، حين يختل نظام الحياة الصارم الممل، تطرب النفوس، ما أحلى المفارقة، وخاصة إن كان بطلها ناظراً وقوراً وكلبه عجفاء، أما الناظر فقد اختفى الوجود من عينيه، انه لا يعرف أيسكه كلب أم كلبه، خرج عن الزمان والمكان، سوى هذا الكلب المكشر عنه أنيابه، أتجري من كلبه عجفاء يا مدير المدرسة، جري الفطرة، وليس جري التكلف، جري مياه الأمطار، وليس جري صنابير المياه، كنا نحس أن جسمه لا يعرف الخوف، هكذا خٌلق، جسم لا تعتريه سوى الصرامة والاحترام والخطوات الموزونة، في البدء كان يجري وهو خائف على صورته أن تهتز، فالميدان هو السوق، حيث النجار والخضرجي وبائعات الشاي، وقد كسر في ركضه كبابي الشائ وداس على كيمان الطماطم والعجور، خسائر فادحه لتجار بسطاء، أحس بأن الكلب هدم كل ما بناه، وبأن حياة جديدة رسمها الكلب، صحيح عنتر كتلو أعمى، وحين اقتربت منه الكلبة، فنى عن الجميع، لم يعد سوى كلبة فاغرة فاه، وناب حاد يود أن يغوص في فخذه الثمين، جسم عجوز مهدد بالعض والتمزيق، وروح مهدده، شعر بروحه، وبكيانه، بل بكل ذره فيه، نسى المدرسة وأولاده وهم الرزق، كل المخاوف والحياة استحالت إلى كلبة تهدد وجوده على ظهر البسيطة، كلبة كالظل، سوف يلاحقك طوال حياتك ياحضرة الناظر المحترم، حتى لو نجوت منه، هل ستنجو مما فعله بك أمام الخلق، كم عذبه هي الذاكرة، رائحة الأحداث تمتد عبر الزمن، وكأنها نهر لا مصب له، الألسن تخبر الأذان، والأذان تخبر الألسن، دواليك، جيل بعد جيل، هل تذكر هتلر وهبنقة، إنها غريزة الخلود، الحكايات تلد الحكايات، ستكون وصمة عار لأحفادك وأحفادهم، لقد غزت فضيحتك أيام المجهول البعيدة، شمس لا تكف عن الشروق، ولأول مره في حياته يرى أن الموت شئ بسيط ومباغت، كحقيقة مجسدة، وليس وهما يؤرق النفس، أنهمر العرق من كل عضلات ومسامات الجلد الخائفة المسرعة، وللحق توحد مع الخوف، لم يعد سوى خوف يملأ كيانه، وكأنه قالب خوف، تمنى أن يخرج بسرعته عن الزمان والمكان، أو أن يصحو فجأة، وكأن الحياة كابوس، حلم مزعج، كذبه، مرت برأسه شرائط حياته كلها كالبرق، بل ملايين الحيوات، لا خلاص من الكلبة سوى السرعة، حبل النجاة هي أن يسرع بكل قوته، ماهي السرعة؟ أهي حبل النجاة، أهي الابتعاد عن العدو فقط، إهي العجز عن المواجهة، أهي الاعتراف بكينونة الخوف الفطري، لقد تعجبت من سرعته، أين كانت هذه السرعة، كامنة في هذا الجسد المترهل العجوز، قنبلة من الجري كانت مخبأة خلف وقاره الكاذب، ولهذا خلق الله الأقدام في خلوة الرحم، طويلة ورفيعة ورشيقة، كي تركض، كي تقفز، سرعة كامنة في الأرجل، فانفجرت مدوية بسبب نباح الكلبة المسعور، طاقة إلهيه لحفظ الذات، وهل تسعفه سرعته المحدودة، ليت له سيقان الريح أو الضوء أو الخيال، بدأ يسرع الخطو، وكأنه حشد له كل ما قدر له في حياته من طاقة الجري، كانت سرعته أكبر من رجليه، وكأنه يطير، إنه الخوف الحقيقي، الخوف الذي يهدد حقيقة حياتك، وتجد نفسك بغتة، وبلا توقع، في مواجهة الموت.. الموت.. الموت، هذه الكلمة القديمة الحديثة، تقابلك كتجربة شخصية ماثلة، فيك، وليس في غيرك، كلمة بكر، لم يجربها جسمك بعد، إنها أكبر من الألم والخوف والانفعالات، إنها ذروة لا تبلغ وتعرف إلا بالتجربة، الموت يفتك بحياتك الكبيرة بيسر وببساطه، كم أكذوبة انت أيتها الحياة، جذوة واهنة تطفأ بأوهن نسيم، أهكذا يطرق الموت الباب، في أي لحظة غير متوقعة يريدها هو، وكأنه يكره ظاهرة الاستعداد، حتى بالنسبة له، لاشكل له ولا رائحة، ولاوجود، عدو غريب، مسكون بالمباغتة، أهكذا تسدل ستارة حياته الحافلة بالتربية والعلم، يموت وسط السوق، محروق الحشي، معفراً، مسكوكاً، خائفاً، معضوضاً في مؤخرته، والكلبة الهزيلة تشد من أزرها، وأي ضير ان ينتقل اللحم من جسم الناظر المكتنز إلى جلد الكلبة الضامرة، "العدالة قيمة عليا" شعار خلف مكتب الناظر، أحس الناظر بأشياء بكيانه كانت منسية، نائمة، أشياء مجردة بدأت تتجسد وتحس، قلبه الميت بين ضلوعه هب مذعوراً من كمية الدم المتدفقة نحوه والمليئة بالأكسجين، وكأنه يتنفس بفتحاته التسع، كانت رجله مهددة بالعض، أحس بكعب رجله، كما يحس بعينه، وبعضلاته وبفخذة وبساقيه وببطنه وشعره وسرته، وبأن الألم، هذا الكائن الغريب يدخل عليه من هذه الأبواب، أحس بأن الجسم هو الروح، حقاً هو الروح، روح خفيف يخاف ويفرح ويموت، وهل تموت سوى الروح ؟ لقد كسر في ركضه الجنوني الكاريكاتوري أواني الشاي لسعاد، ولم يقف ليعتذر لها، لا قانون ولا أخلاق مع الخوف، أستحال إلى كتلة هوجاء، فوضى من اللحم، مسكون بشيطان الخوف العظيم، بالأنانية الكبرى، احتمى بالشحاذين، وبالشجر وبالأطفال، لم يكن ينظر سوى لنفسه، تعرى، تنكر لكل الخطب الرنانة التي ملأ بها أذاننا في الطابور، التضحية.. الإيثار، نكران الذات، إي نكران للذات وأنت تحتمي بحليمة الهرمة العمياء من الكلبة المسعورة، وإي حكمة وأن تدوس بأرجلك المرعوبة على رأس مال سعاد الأرملة، لم أعد أصدق ما يقوله في الطابور والفصول، حتى كروية الأرض والجاذبية الأرضية، وقصيدة السماء الضحوك للشابي، فالأرض مكعبة، والجاذبية في رائحة العجور والنبق ووجه آمنة فقط، صارت موضع شك وارتياب عندي كل الاشياء التي ملأ بها رؤوسنا المكلومة، قطع الرقاب ولا قطع الأرزاق، إنني معجب بالناظر في هذا الوقت، تمنيت تقبيله، إنه حر، يكاد يكون حراً من كل القيود، أنه معذور، لو بكى، لو تعرى، لو كسر، لا تثريب عليه، كالعنب يحمل بداخله الخمر ولا يوبخ، تحول المشهد إلى كلبة وناظر، كلبة مسعورة وأرنب خائف مذعور، كلبة لم تترب على احترام الكبار، وتوقير حضرة الناظر، وأداء الواجب واحترام الرأي العام، وجدت ضالتها فيك، أغراه سمتك ووقارك، كلبة جائعة منسية، ليس في السوق قطعة عظم، لا كوش ولافضلات، إناس فقراء، موخراتهم مقفولة منذ عام، فما يدخل الفم لايكفي حاجة الجسم من الطاقة والصبر ومكابدة الحياة، فوجد في فخذ الناظر لحماً طرياً، مرت بالناظر أطياف الوداع، ملايين الصور، لأحياء وأموات، لأناس قابلهم في عشرة لا تتجاوز جزء الثانية، تذكر حتى رائحتهم، ملابسهم، هل جن، اختلط الحابل بالنابل، الذاكرة بالخيال، أيودع بيته وحياته للابد؟ هذيان المحتضر، أرتعش قلبه، نسى جميع الآراء والمعتقدات التي شب عليها، وألقى نظره بكر للوجود، كان يجري بأقصى سرعة، حتى بدت أرجلهما، أرجل الكلب والناظر، مثل مروحة في نمرة واحد، لا ترى سوى كره من الحديد، بل لو أعادو الجري بالتصوير البطئ لبدت مثل مروحة في نمرة واحد، وهو في ركضه رمى شنطته وكراسات الإملاء للفصل الرابع، فصلي، حتى يكون خفيفا، ولحقت بها الساعة والجزمة والبنطلون، يا ترى حين كان يتجول سابقاً، هل تصور بأنه سيقفز فوق كوم البطيخ المرتفع، وبأنه سيرشق كلبه فاطمة بخبز طيفور الحار، وبأنه سوف يلف حول سبيل السوق أربعة عشرة مرة لاهثاً، وقد أطلقنا على السبيل "كعبة الناظر" فمن غيره يطوف حول السبيل 14 مرة لاهثاً وكأنه كعبة يرجو مساعدتها.


وانتهى الحدث السعيد، مصائب قوم عند قوم فوائد، بعد أن تسلق الناظر شجرة النيم، ليجلس معي في غصن صغير، نزاحم طيور الله في وكناتها، ونستمتع برؤية حركة السوق الدائبة، سينما حية، بلا تذكرة أو صفوف، أبطالها حاجة حليمة، وعثمان الاطرش، ومقهورين آخرين، يمثلون الواقع الحزين، بلا مخرج أو سينارست، تمثيل حقيقي، في اللحم والدم، الشحاذ هو شحاذ، وليس ممثلاُ ثرياً، يتقاضي الملايين، كي يمثل دور شحاذ معدم، منكسر القلب، وأنى له ذلك، فالنائحة الثكلى، ليست كالمستأجرة، فقد كنت اختفي في السابق بين غصون الشجرة حتى يشتري الناظر حاجياته، قلت في السابق لأني بعد الحدث لم أكن محتاجاً لهذا الاختباء، نظر إلى بخجل وإنكسار، وكأنه يترجاني بكل جسمه أن لا أبوح لأحد، فنزلنا لشرب الشاي، معاً، اختل الميزان، أنا الناظر والمدير الآن، وهو الطالب المهمل الكسول، الخائف، يترجاني أن لا أبوح لزملائي، ويربت على كتفي وكأنني نده، صنوه، وكاتم سره، أضحك في سري، حين أتذكره وهو ينطط .. جر جر.. ويتشعلق، ويقع، ويتفوه بكلمات لم أكن أتوقع بأنها مدفونه في ذاكرته إطلاقاً، ظهرت على حقيقتك يا ود سكينة، يا بابكر حسن، وهذا هو اسمه العاري، الحافي، الحقيقي، لقد ولى زمان الجبروت، وتم ميلادك في عصر جديد، سيؤرخ في أخلاد الطلاب .. "ماقبل النبحة .. وما بعد النبحة".. ق ن أم ب ن.


انتشر الخبر وكأنه كان يجري في السماء فوق رؤوس البيوت، وجاءه الناس معزين، ومطالبين بالتعويض للأضرار التي لحقت بهم، تحطيم كبابي وكوانين، وقلل ودهس للطماطم والعجور وقدر الفول. فقد رويت الحادثة 375 مرة، وهي عدد الطلاب والمدرسين زائداً ثلاثة، والثلاثة الزائدة هي أستاذ طلب مني أن أقصها ثلاثة مرات وهو يكاد يقع على قفاه من الضحك.


وفي الفصل، نظر لي وكأنه يستجديني بالصمت، ولكنه حين نظر في عيون الطلاب شعر بوخزها، كانت العيون الماكرة تحمل ضحكة أكبر من صورته القديمة البالية، وحين أخرج الطلاب الكراريس التي ألقاها الناظر وهو يخفف عبأه خوفا من الكلب، استيقن بأني رسمت له صورة كاركاتورية، لن تسطيع بشاورة، ولو كانت بحجم يغطي البلاد من برد الشتاء، أو تغطي البحر من ضوء القمر، قادرة على مسحها من أذهان الطلاب، فدوت ضحكة، لازال ببغاء الصدى يرددها في الأفاق، ولأول مرة يكتب "مدثر" معادلة فيزيائية "سرعة الضوء = سرعة الناظر – سرعة كلبة فاطمة" كتبها على جدار الفصل المواجه للطابور، يمين "العلم نور" و"الفتة فطور" التي اضيفت بخط بدائي.


وكما قلت، تبدو المدرسة بعد الحدث العظيم، الأطفال يلعبون في ساحة المدرسة، كرة القدم ترتطم بشدة باب مكتب الناظر، وكرة التنس بصلعته، لترتد لنا، لنواصل مهرجان الفرح، وكأن شيئاً لم يكن، وهو مستغرق في ذاته، في انعتاقه، في التحولات التاريخية في جسده وغدده وذهنه وحريته، ونظرته لنفسه، للهروب من هوان الذل، أعرف نفسك، وإلا الكلبة قادرة على هذا التعريف، بفعل الكلبة العجفاء، جنود الله التي لا ترونها، وحين يذكر نشوى الأمن التي اعترت وتخللت كل جسمه، كله، بٌعيد ذلك الحدث، وكأن جسمه كتله من بلور زجاجي، اخترقته بصورة كاملة أشعة قوية من الأمن، من الحياة، من الميلاد الجديد، وفي دخيلته، حين يتخيل تلك الحالة، فإنه كان يتمنى أن تسكه الكلبة مدى الدهر، فقد سقطت من ظهره ملايين، مليارات الأقنعة والهموم والمظاهر الكاذبة التي كان يتصنعها لمجاراة رأي عام صارم ومتحجر.


لقد خرج من سجنه بسبب الكلبة العجفاء، جنود الله التي لا نراها، لقد غسلته من كل فهم أو عرف قديم صُبغ به، إنه ينظر للحياة نظرة طفل حديث في السبعين من عمره، أما أنا فقد صرت بطل الحكي في بالمدرسة، أدركت بأن الناظر مجرد إنسان، يخاف ويحب وينام، مثلي، إن لن لم يكن أقل مني، انطلقت موهبتي كالنافورة في أصقاع المدرسة.


وللحق لا نفع لي، سوى أن أحكي، وأن أحكي من رأسي، وليس من كراسي، فأنا فقير ويتيم، ولا يمكنني شراء كتاب، ولا حتى سرقته، ففي قريتي لا توجد مكتبة، بل للحق فأنا أمي رغم السنوات الخمس العجاف بالمدرسة، كتابي هو خيالي، هو قلبي الذي يرغب في ملايين الأشياء، منها الممكن ومنها المستحيل، ثم يحرم منها جميعاً، فلذا فهو يتخيلها، يتخيل شكل الحلاوة، ثم يتخيل طعمها، ثم أمضغها، بتروي حتى لا تنزلق من بين لساني وحلقي، بل يتخيل كل الأشياء كما تروق له، يتخيلها بعمق، كما لو هي موجودة أصلاً، بل يجعلها هي الموجود الحقيقي، والواقع هو الخيال هو السراب، مثل مريض الهذيان، هذيان الحكايات التي تجعلني سيد نفسي، أسمع الأنوار، أرى وقع اللحون، لأنني أحلم بعالم غريب، الحجارة فيه تضحك، كما لو أنها تراود ملاكاً جميلاً، والسماء عبارة عن قلب أم كبير، يلف بحنانه أنفاسي الخائفة، أحكي بعمق، حتى ينصت الناس لي، لأنيني، لأحزاني المخفية تحت جلدي الضئيل، أكرموا محدثكم بالإنصات إليه، حتى يرى وجهه في مرآة عيونكم أحسن ما يكون، لذا كنت أهرب من المدرسة، فأنا الطيش، في سنة أولى وثانية وثالثة، لقد ترك الحمار دوره في الأمثال، فصار يضرب بي المثل في الغباء، لذا كنت أهرب يومياً للسوق، ومن فروع شجرة النيم كنت أرى الناس تحتي، صغاراً مثل النمل، فيهمد خوفي منهم، بل أحبهم، وأتهكم عليهم، واتابع حركاتهم، وتعابير وجوههم الغريبة في عملية البيع والشراء، كم هو غريب وجه بني آدم في مساومات البيع، إيخاف فناء ماله، وكنت اتابع رحلة حبات الطماطم الحمراء من خلال معدتي الخاوية، وهي تلمع مثل صدر آمنة الصغير في أكوام كبيرة وهي مفروشة على شوالات الذرة المبلولة ، ثم وهي توضع في أكياس مصنع ربك محتلة مكان الاسمنت ، ثم هي تكتوي بنار الطبيخ، وأخيراُ وهي في فم آمنة وقد سال لعابها، هذا العسل الذي تمنيت أن أمصه مثل عود قصب السكر، والذي يبدو في استحالته، مثل أن أكون أول الفصل، وقد أحرزت في الرياضيات مائة من مائة، أو أن تصير أمي من صديقات زوجة الناظر وسعاد زوجة حاج علي حتى ألعب بكرة القدم الوحيدة بدارهم، وأشاهد سوبرمان في التلفزيون الأبيض والأسود، ولم تعرف المدرسة موهبتي، إلا بعد أن قصصت حادث الكلبة 375 مرة، بعدد طلاب المدرسة والمعلمين، وفي كل مره أضيف وانقص، دون أن يتشوه المتن، حتى لا تلتفت العيون إلى غيري بسبب الملل، لأنني ألمس أحلامي وأشم أمنياتي وأصنع من الحبة قبة، كما قالت أمي، لأني أشعر بضآلة الحبة، وبفقرها وبتوقها لأن تكون قبة، ولم لا..كنت أبحلق في كريات بعر الحمير بتأني، كما تحدق النساء في لمعة الذهب في الفترينة، ذائباً في تكورها، معاناتها وهي تجتاز أمعاء الحمار الغليظة، هوانها وهي تلفظ سقط متاع، وكأنها ليست أهلا لكي تكون نهقة أو رفسة أو شعر ناعم على ظهر أو ذيل الحمار، ألا يعتبر هذا اكتفاء ذاتي؟!!.

اللوحة:من أعمال جويا

فضيلي جماع:تجليات الوجود في:"آلام ظهر حادّة"، للقاص /عبدالغني كرم الله

في السودان اليوم أكثر من تيار في القصة القصيرة والرواية ؛ يغلب عليها جميعها إنزواء صوت الأيديولوجيا الذي كان السمة الأساسية للتيارات الإبداعية في الفترة بين منتصف الستينات وبداية ثمانينات القرن الماضي. من حيث الشكل واللغة يلاحظ القارئ أن هناك تطوراً نوعياً يأتي كإضافة لما كان في الساحة حتى الثمانينات . وبما أن تجليات الواقع بكل تقلباته السياسية والإقتصادية تمثل أحد أهم شروط إنتاج العمل الأبداعي فإنّ قراءة سريعة لبعض نماذج القصة القصيرة في السودان في العقدين الأخيرين تفصح عن منتج جديد يحمل تفرداً – ليس في الشكل والمضمون فحسب – بل في الصيغ الجمالية للقصة. ونعني بجماليات القصة بعض الصنعة التي تمنح الوسيط اللغوي المحدود حيوية حين تنقله من مجرد كونه ماعوناً للحكاية إلى رؤية جمالية متفردة في عصب البناء القصصي. يصف الكاتب المغربي مصطفى جباري هذه المعادلة بقوله: "إنّ الحكاية وحدها لا تنتج قصة، واللغة وحدها لا تنتج قصة ، لأنهما لا ينتجان رؤية بالمدلول الجمالي للكلمة بمعزل عن الصيغ الفنية والجمالية ، وهذه تأخذ شكل صنعات تنمذج اللغة من خلال بعض الوسائط ، فتنطبع في القصة بناء ومعماراً وإيقاعاً وصورة وتشكيلاً." (أصوات وأصداء – ندوة في القصة المغربية) ، ص17.ولعل جيلاً جديداً في السودان أتيح له – رغم الإحباط القائم- فرصة التلقي المعرفي بغزارة ، عبر انتشار المطبوعة ووسائط النقل المختلفة من راديو وتلفاز وصحيفة وشبكة الإنترنت وغيرها مما جعل تجربته بنت عصرها ، وجعل إبداعه للقصة القصيرة متفرداً. أكتب اليوم عن صوت جديد في القصة القصيرة السودانية في نسختها العربية..(وأقول نسختها العربية لأن هناك قاصين سودانيين يكتبون بالإنجليزية، مثل: آلفريد تابان ، جمال محجوب و ليلى أبوالعلا وغيرهم). ما زالت القصة السودانية - منذ خليل عبدالله الحاج وملكة الدار محمد والطيب زروق مروراً بالطيب صالح وجيل أبوبكر خالد وعلي المك وعيسى الحلو ، وانتهاء بكتابات بشرى الفاضل واحمد الفضل احمد – ما زالت تعيش مرحلة التجريب بحثا عن شكلها وسمتها الخاص.
بين يدي مجموعة قصصية توسمت في كاتبها الموهبة والقدرة على معالجة هذا الجنس الأدبي معالجة لها مذاق مختلف. تحمل المجموعة القصصية عنوان "آلام ظهر حادة" للقاص السوداني الشاب عبدالغني كرم الله. تتوزع المجموعة من حيث الشكل بين القصة القصيرة وبين الأقصوصة بحجمها المتعارف عليه كجنس سردي يتوسط القصة القصيرة والرواية..إضافة إلى ما درج النقدة وبعض الكاتبين على تسميته بالنص، وهي تسمية أقرب للتعريف المبهم لجنس أدبي ليس سرداً قصصيا ً كاملاً. ولعل الكاتب نفسه وجد المتعة في لعبة التجريب ، فلم تتقيد مجموعته بأي من الأنماط الثلاثة المذكورة ضربة لازب. حول إشكالية التجريب يقول نور الدين صدوق: (كل كتابة إبداعية – مهما كان الجنس الذي تنضوي تحته- إن هي في الجوهر سوى تجريب من بين أهدافه الأساسية التميز عن السابق.) "أصوات وأصداء" ، ص83. وبهذا المفهوم فإن من الجائز إدراج العمل الإبداعي عموماً في دائرة المغامرة ؛ فالتجريب هنا محاولة استكشاف للذات وللوجود من حولها. .إذ أنّ الغاية من الكتابة في الغالب هي طرح أسئلة ، ليس بالضرورة أن تتوفر الإجابة لها في الآن والمكان. يقول محمد امنصور من المغرب في هذا المعنى: (إننا نكتب لنطرح سؤآلاَ على الكتابة والوجود. نكتب القصة لنكشف شيئاَ جديدا، تقنية جديدة، علاقة جديدة باللغة ‘وذلك متى امتلكنا القدرة على صياغة أسئلة جديدة تسبر عمق وجودنا الإنساني.)- "أصوات وأصداء" ‘ ص78. يصدق هذا الكلام على مشروع النثر (القصة والمسرح والمقالة) ؛ فالكاتب ناثرا مطلوب منه أن يقف على دلالة الكلمة وما تفصح عنه من فكرة. عليه أن يفصح من خلال الكلمات ماذا يريد أن يقول ؟ على عكس الشاعر الذي تبدو الكلمات في عالمه غاية لا أداة وأنها حمالة أوجه. ولعلّ جان بول سارتر أوجز ذلك حين قال: (واللغة للشاعر مخلوق له كيانه المستقل. ولكنها للمتكلم مجال نشاطه حين يستعين بالكلمات التي تمثل وحدة اللغات. .......فهو محوط بمادة اللغة التي لا يكاد يعي سلطانها عليه ‘ وهي بعد ذلك ذات أثر بالغ في عالمه. والشاعر خارج عن نطاق اللغة ‘ يرى الكلمات من جانبها المعكوس ‘ كأنه من غير عالم الناس.) "جان بول سارتر – ما الأدب؟ ترجمة د. محمد غنيمي هلال" ص34。 وانطلاقاَ من هذا الفهم لمدلول الكلمة عند القاص تتوقف درجة النجاح أوالفشل في قيمة السرد القصصي. من حيث مواعين الكلام واستخدام المفردة ودلالتها أستطيع أن أقول إن لغة السرد عند عبدالغني كرم الله ثرة وحية . تطفر منها هنا وهناك إشارات ثقافة قرآنية وحكمة للمتصوفة دون تكلف أو حذلقة. ولعل أول ما يلفت نظر القارئ لهذه المجموعة غرابة أبطال قصصها ‘ إذ أنّ معظم "الشخصيات" الرئيسية في هذا العمل ليسوا أشخاصا بشراً!! فالأقصوصة التي حملت المجموعة عنوانها يروي أحداثها نعال..أي نعم "جوز حذاء"..(أنا زوج حذاء رجالي مقاس 42). وهنالك قصة بطلتها أنثى كلب ‘ وأخرى تحكي فيها نسمة لرائحة الطمي تجربتها: (كنت على يقين – أنا رائحة الطمي –أنّ السفينة ستتأخر.) ص81 يستعير الوجود في قصص عبدالغني كرم الله النبض الحي للإنسان - أروع مخلوقات هذا الكوكب وأكثرها إبداعاَ. يستنطق كاتبنا الشاب الأشياء العادية في قارعة الطريق ؛ ينفخ فيها روحا وحيوية. الحذاء المدلل داخل "البترينة" يخشى على نفسه أن يرميه حظه العاثر في أصحاب الأرجل الخشنة ؛ يلبسونه ويعبرون به أقذر الأزقة ...هذا ‘ ناهيك عن الرطوبة التي ستتغلغل في عظامي بفضل عرق أرجلهم المشققة ‘ والتي تحشر بداخلي بلا رحمة أو جوارب !) ص8. هذا الحذاء -الذي حملته إحداهن هدية لخطيبها -عاش أسعد اللحظات؛ فكان العين التي ترقب حركات وسكنات المحبوب وهو يسعى خفيفا كالريشة إذ يضرب موعداً مع المحبوبة: ( ولقد لاحظت خفة وزن بني آدم حين يسير مع المحبوب ؛ إنه يكاد يكون بلا وزن‘ وكأنّ روحه الثملة قد أفنت ثقل جسده ، فيغدو واهناً وكأنه يسير على القمر مثل رواد الفضاء.) ص 13لكن أيام الدعة والسكون لا تدوم طويلاً للحذاء المسكين..فقد تسلّل إلى الدار سارق (ودخل الغرفة للسطو على شيء ثمين.) فكان الحذاء الموضوع في صندوق ملفوف بورق السولوفان – لكونه هدية الحبيبة – أول ما وقعت عليه يد اللص. ومن ذاك اليوم لم يكن بالمدينة زقاق مترب أو كثير الطين إلا وديس عليه في تربته الرطبة القذرة. وإذ يبلى الحذاء فإن مكانه القمامة أو ركن قصي بالمنزل في أفضل الأحوال..ويصبح مرتعاً للحشرات والآفات: (في ركن قصيّ تمّ إلقائي ‘ وكأنّي لم استبسل وأدافع بشجاعة عن سعادة وسلامة وجمال الأرجل البشرية، ليس فيّ سنتمتر مربع واحد إلا فيه طعنة شوكة أو ضربة حصى أو شرخ علبة صلصة .) ص34يتميز قلم عبدالغني كرم الله بالسخرية المريرة من سلبيات ابن آدم التي تصاحبه في قيامه وقعوده فيعتادها الآدمي ويجد لها العذر والتبرير. بل إن بعض تلك العادات البشرية الذميمة تصبح سجناً لبعض الناس حتى تدخلهم تجارب الحياة مآزق ومطبات كانوا في غنى عنها، وسعيد الحظ منهم من أخرجته التجربة من سجنه ، وعتقته من عبودية إدمانه السلبيات ، فيخرج إلى الحياة الرحبة من جديد كما الطفل .
يحكي قصة "كلبة فاطمة" طالب فاشل ، لا يجد فرصة للتسلل خلسة من الفصل ومغادرة اليوم الدراسي إلا فعل. لكن الطالب – وهو يتسلل من الحصة الخامسة ذات يوم ليمارس هوايته في تسلق شجرة النيم الضخمة قبالة السوق- يفاجأ بأن ناظر مدرسته المهيب يهرع إلى ذات الشجرة ، ويتسلقها، جالساً على أحد فروعها إلى جواره طالباً النجاة من كلبة فاطمة ! يكثف عبدالغني كرم الله الحدث في هذه القصة ‘ ويشحن التفاصيل الدقيقة بدراما تجعل التوتر عالياً من أول سطر في القصة حتى نهايتها ، فكأنما أريد لسياق القصة أن يجئ ساخناً وسريعاً وغارقاً في الكوميديا . فالقصة تبدأ بالذروة – حيث ساق الحظ العاثر ناظر المدرسة المتجهم ، والصارم ليكون طريدة كلبة فاطمة..فيخلع بنهاية القصة خيلاءه الكاذبة ويعود إلى صورة الإنسان فيه ؛ وقد كان قبل ذلك التاريخ شخصاً من طين آخر طين لا يعرف النكتة والحنان ومسح رؤوس الأيتام ، طين لا يعرف الخوف. كانت حياته محسوبة ، عبارة عن معادلة رياضية ، أي تغير في طرف يخل بالطرف الآخر، خطواته ونظراته ، صورة صارمة وبغيضة يقشعر لها جلد وعيون وشنط وخطوات وكراسات الطلاب.) ص51 يعطي الإيقاع السريع هذه القصة نفثاً درامياً عالياً ،فالمسرح (ساحة السوق) وهو يكتظ بالجمهور متعدد السحنات والمهن والأغراض ، يجذبه العرض الفجائي الذي جاء على غير موعد أو إنذار. تطلق الكلبة نباحاً داوياً وسط السوق وقد اختارت فريستها على مرأى من هذا الحشد. ثم تبدأ الكوميديا، ينسى الناظر صرامته ووقاره المصطنع ويعطي قدميه للريح. (وكلما اقتربت الكلبة من رجليه نسي جزءاً من الوجود المحيط ، من الباعة والنساء والشماسة وأهل الحي) ص53. تزداد وتيرة الوصف وروعة السرد صعوداً مع الحدث ، حتى لنشعر في حالات أنّ تكثيف السرد والعناية بالتفاصيل المتتابعة إنما هو جزء من معركة الجري والملاحقة بين كلبة فاطمة وطريدتها ناظر المدرسة الذي يبحث عن طوق نجاة: (أما أهل السوق‘ فالجائع نسي جوعه ، والحرامي أجّل شغله ، والصعلوك همدت رغبته، فقد تأجل البيع والشراء حتى يتفرجوا عليه ، حتى ينسوا همومهم وغمومهم للحظة صغيرة .) ص53 حررت كلبة فاطمة الناظر من فظاظته وكبريائه الزائف ، وأعادت لساحة المدرسة ضحكات الأطفال ولعبهم دون حذر أو خوف: (لقد خرج من سجنه بسبب الكلبة العجفاء، جنود الله التي لا نراها . لقد غسلته من كل فهم أو عرف قديم صبغ به ، إنه ينظر للحياة نظرة طفل حديث في السبعين من عمره . أما أنا فقد صرت بطل الحكي بالمدرسة . أدركت بأن الناظر مجرد إنسان، يخاف ويحب وينام ، مثلي إن لم يكن أقل مني.) ص61
لعبة التجريب في العمل الإبداعي فضاء مفتوح ، يصعب السيطرة على مجاذيفه. وفي هذه المجموعة جنس إبداعي يستعير شيئاً من طبيعة السرد القصصي وتداعيات الخاطرة. وهو ما اصطلح بعض النقدة على تسميته أحياناً بالنص ، وهي تسمية كما نرى لا تفصح عن دلالة وطبيعة هذا اللون من الكتابة. وعلى سبيل المثال فإن المقطوعات التي حملت عناوين : "الدجاجة أقوى من الأسد" و"أجمل سباق" و"رقص على طبول النسيم" هي أقرب إلى الخواطر وتداعيات الكتابة في لحظة تحرر من قيود الشكل والنمط. إنها محاولات لسبر غور ما في النفس من أمور قد تكون الكتابة الحرة من كل شكل أحياناً أقرب إلى استيعابها، الشيء الذي يجعلها تتأرجح بين السرد القصصى والخاطرة الشخصية.
ألفت نظر الكاتب – في ختام هذه القراءة العابرة- إلى بعض المآخذ التي أحدثت بعض الدمل والخدش الطفيف في جسد هذا العمل الجيد بكل المقاييس. وظني أنّ هذه الكراسة لم تجد حظها من المراجعة الدقيقة قبل ابتعاثها إلى الناشر .أقول هذا دون قصد للحط من لغة أديبنا الشاب ، فالقصص في مجملها كتبت بلغة أنيقة ، وغاية في الفصاحة ..لكن ما أعنيه يقع تحت دائرة الإهمال أو الاستعجال ، ولم أر في تجربتي المتواضعة شيئا أكب المبدعين على وجوههم مثل الاستعجال والإهمال. وأحسب أنّ جانب القصور في هذا العمل الإبداعي – على قلته – جاء نتيجة التسرع والإهمال. وردت بعض العبارات الفطير –على ندرتها - من حيث الصياغة اللغوية . ترد في الصفحة 37 عبارة تقول : ( أي قسوة هذه تلك التي تواجه بها الحياة النفوس!) يمكن للقارئ العادي أن يلحظ ببساطة تكرار أسم الإشارة مما يخلق ركاكة في التعبير إذ يقول: (...هذه تلك التي تواجه..الخ....). أو أن يقول في ص52فاقشعر نظر الناظر..) ، والقشعريرة مقرونة في الغالب الأعم بالبدن. أو أن يقول في موضع آخر: (في ترديد أغان سمجة ظل يحرمها عن فتيات الحي) ص73 ..والصواب "يحرمها على" وليس عن. أو أن يهمل الصفة تماماً بدل أن يتبعها الموصوف كما ينبغي ، كأن يقول: (يجر عبئاً ثقيل...) إذ ليس من عذر يحذف بمقتضاه تنوين الفتح عن كلمة ثقيل..فالصحيح إيرادها : عبئاً ثقيلاً كما تقضي بذلك ضرورة اللغة.أتسقط كل هذه الهفوات لحرصي على موهبة كاتب أتوسم أن يردّ - هو وآخرون خرجوا من صلب زمن الخيبة والإحباط الماثل - أن يردوا إلى دفتر الإبداع السوداني بعض العافية.
فضيلي جمّاع لندن