الجمعة، 9 أكتوبر 2009

فضيلي جماع:تجليات الوجود في:"آلام ظهر حادّة"، للقاص /عبدالغني كرم الله

في السودان اليوم أكثر من تيار في القصة القصيرة والرواية ؛ يغلب عليها جميعها إنزواء صوت الأيديولوجيا الذي كان السمة الأساسية للتيارات الإبداعية في الفترة بين منتصف الستينات وبداية ثمانينات القرن الماضي. من حيث الشكل واللغة يلاحظ القارئ أن هناك تطوراً نوعياً يأتي كإضافة لما كان في الساحة حتى الثمانينات . وبما أن تجليات الواقع بكل تقلباته السياسية والإقتصادية تمثل أحد أهم شروط إنتاج العمل الأبداعي فإنّ قراءة سريعة لبعض نماذج القصة القصيرة في السودان في العقدين الأخيرين تفصح عن منتج جديد يحمل تفرداً – ليس في الشكل والمضمون فحسب – بل في الصيغ الجمالية للقصة. ونعني بجماليات القصة بعض الصنعة التي تمنح الوسيط اللغوي المحدود حيوية حين تنقله من مجرد كونه ماعوناً للحكاية إلى رؤية جمالية متفردة في عصب البناء القصصي. يصف الكاتب المغربي مصطفى جباري هذه المعادلة بقوله: "إنّ الحكاية وحدها لا تنتج قصة، واللغة وحدها لا تنتج قصة ، لأنهما لا ينتجان رؤية بالمدلول الجمالي للكلمة بمعزل عن الصيغ الفنية والجمالية ، وهذه تأخذ شكل صنعات تنمذج اللغة من خلال بعض الوسائط ، فتنطبع في القصة بناء ومعماراً وإيقاعاً وصورة وتشكيلاً." (أصوات وأصداء – ندوة في القصة المغربية) ، ص17.ولعل جيلاً جديداً في السودان أتيح له – رغم الإحباط القائم- فرصة التلقي المعرفي بغزارة ، عبر انتشار المطبوعة ووسائط النقل المختلفة من راديو وتلفاز وصحيفة وشبكة الإنترنت وغيرها مما جعل تجربته بنت عصرها ، وجعل إبداعه للقصة القصيرة متفرداً. أكتب اليوم عن صوت جديد في القصة القصيرة السودانية في نسختها العربية..(وأقول نسختها العربية لأن هناك قاصين سودانيين يكتبون بالإنجليزية، مثل: آلفريد تابان ، جمال محجوب و ليلى أبوالعلا وغيرهم). ما زالت القصة السودانية - منذ خليل عبدالله الحاج وملكة الدار محمد والطيب زروق مروراً بالطيب صالح وجيل أبوبكر خالد وعلي المك وعيسى الحلو ، وانتهاء بكتابات بشرى الفاضل واحمد الفضل احمد – ما زالت تعيش مرحلة التجريب بحثا عن شكلها وسمتها الخاص.
بين يدي مجموعة قصصية توسمت في كاتبها الموهبة والقدرة على معالجة هذا الجنس الأدبي معالجة لها مذاق مختلف. تحمل المجموعة القصصية عنوان "آلام ظهر حادة" للقاص السوداني الشاب عبدالغني كرم الله. تتوزع المجموعة من حيث الشكل بين القصة القصيرة وبين الأقصوصة بحجمها المتعارف عليه كجنس سردي يتوسط القصة القصيرة والرواية..إضافة إلى ما درج النقدة وبعض الكاتبين على تسميته بالنص، وهي تسمية أقرب للتعريف المبهم لجنس أدبي ليس سرداً قصصيا ً كاملاً. ولعل الكاتب نفسه وجد المتعة في لعبة التجريب ، فلم تتقيد مجموعته بأي من الأنماط الثلاثة المذكورة ضربة لازب. حول إشكالية التجريب يقول نور الدين صدوق: (كل كتابة إبداعية – مهما كان الجنس الذي تنضوي تحته- إن هي في الجوهر سوى تجريب من بين أهدافه الأساسية التميز عن السابق.) "أصوات وأصداء" ، ص83. وبهذا المفهوم فإن من الجائز إدراج العمل الإبداعي عموماً في دائرة المغامرة ؛ فالتجريب هنا محاولة استكشاف للذات وللوجود من حولها. .إذ أنّ الغاية من الكتابة في الغالب هي طرح أسئلة ، ليس بالضرورة أن تتوفر الإجابة لها في الآن والمكان. يقول محمد امنصور من المغرب في هذا المعنى: (إننا نكتب لنطرح سؤآلاَ على الكتابة والوجود. نكتب القصة لنكشف شيئاَ جديدا، تقنية جديدة، علاقة جديدة باللغة ‘وذلك متى امتلكنا القدرة على صياغة أسئلة جديدة تسبر عمق وجودنا الإنساني.)- "أصوات وأصداء" ‘ ص78. يصدق هذا الكلام على مشروع النثر (القصة والمسرح والمقالة) ؛ فالكاتب ناثرا مطلوب منه أن يقف على دلالة الكلمة وما تفصح عنه من فكرة. عليه أن يفصح من خلال الكلمات ماذا يريد أن يقول ؟ على عكس الشاعر الذي تبدو الكلمات في عالمه غاية لا أداة وأنها حمالة أوجه. ولعلّ جان بول سارتر أوجز ذلك حين قال: (واللغة للشاعر مخلوق له كيانه المستقل. ولكنها للمتكلم مجال نشاطه حين يستعين بالكلمات التي تمثل وحدة اللغات. .......فهو محوط بمادة اللغة التي لا يكاد يعي سلطانها عليه ‘ وهي بعد ذلك ذات أثر بالغ في عالمه. والشاعر خارج عن نطاق اللغة ‘ يرى الكلمات من جانبها المعكوس ‘ كأنه من غير عالم الناس.) "جان بول سارتر – ما الأدب؟ ترجمة د. محمد غنيمي هلال" ص34。 وانطلاقاَ من هذا الفهم لمدلول الكلمة عند القاص تتوقف درجة النجاح أوالفشل في قيمة السرد القصصي. من حيث مواعين الكلام واستخدام المفردة ودلالتها أستطيع أن أقول إن لغة السرد عند عبدالغني كرم الله ثرة وحية . تطفر منها هنا وهناك إشارات ثقافة قرآنية وحكمة للمتصوفة دون تكلف أو حذلقة. ولعل أول ما يلفت نظر القارئ لهذه المجموعة غرابة أبطال قصصها ‘ إذ أنّ معظم "الشخصيات" الرئيسية في هذا العمل ليسوا أشخاصا بشراً!! فالأقصوصة التي حملت المجموعة عنوانها يروي أحداثها نعال..أي نعم "جوز حذاء"..(أنا زوج حذاء رجالي مقاس 42). وهنالك قصة بطلتها أنثى كلب ‘ وأخرى تحكي فيها نسمة لرائحة الطمي تجربتها: (كنت على يقين – أنا رائحة الطمي –أنّ السفينة ستتأخر.) ص81 يستعير الوجود في قصص عبدالغني كرم الله النبض الحي للإنسان - أروع مخلوقات هذا الكوكب وأكثرها إبداعاَ. يستنطق كاتبنا الشاب الأشياء العادية في قارعة الطريق ؛ ينفخ فيها روحا وحيوية. الحذاء المدلل داخل "البترينة" يخشى على نفسه أن يرميه حظه العاثر في أصحاب الأرجل الخشنة ؛ يلبسونه ويعبرون به أقذر الأزقة ...هذا ‘ ناهيك عن الرطوبة التي ستتغلغل في عظامي بفضل عرق أرجلهم المشققة ‘ والتي تحشر بداخلي بلا رحمة أو جوارب !) ص8. هذا الحذاء -الذي حملته إحداهن هدية لخطيبها -عاش أسعد اللحظات؛ فكان العين التي ترقب حركات وسكنات المحبوب وهو يسعى خفيفا كالريشة إذ يضرب موعداً مع المحبوبة: ( ولقد لاحظت خفة وزن بني آدم حين يسير مع المحبوب ؛ إنه يكاد يكون بلا وزن‘ وكأنّ روحه الثملة قد أفنت ثقل جسده ، فيغدو واهناً وكأنه يسير على القمر مثل رواد الفضاء.) ص 13لكن أيام الدعة والسكون لا تدوم طويلاً للحذاء المسكين..فقد تسلّل إلى الدار سارق (ودخل الغرفة للسطو على شيء ثمين.) فكان الحذاء الموضوع في صندوق ملفوف بورق السولوفان – لكونه هدية الحبيبة – أول ما وقعت عليه يد اللص. ومن ذاك اليوم لم يكن بالمدينة زقاق مترب أو كثير الطين إلا وديس عليه في تربته الرطبة القذرة. وإذ يبلى الحذاء فإن مكانه القمامة أو ركن قصي بالمنزل في أفضل الأحوال..ويصبح مرتعاً للحشرات والآفات: (في ركن قصيّ تمّ إلقائي ‘ وكأنّي لم استبسل وأدافع بشجاعة عن سعادة وسلامة وجمال الأرجل البشرية، ليس فيّ سنتمتر مربع واحد إلا فيه طعنة شوكة أو ضربة حصى أو شرخ علبة صلصة .) ص34يتميز قلم عبدالغني كرم الله بالسخرية المريرة من سلبيات ابن آدم التي تصاحبه في قيامه وقعوده فيعتادها الآدمي ويجد لها العذر والتبرير. بل إن بعض تلك العادات البشرية الذميمة تصبح سجناً لبعض الناس حتى تدخلهم تجارب الحياة مآزق ومطبات كانوا في غنى عنها، وسعيد الحظ منهم من أخرجته التجربة من سجنه ، وعتقته من عبودية إدمانه السلبيات ، فيخرج إلى الحياة الرحبة من جديد كما الطفل .
يحكي قصة "كلبة فاطمة" طالب فاشل ، لا يجد فرصة للتسلل خلسة من الفصل ومغادرة اليوم الدراسي إلا فعل. لكن الطالب – وهو يتسلل من الحصة الخامسة ذات يوم ليمارس هوايته في تسلق شجرة النيم الضخمة قبالة السوق- يفاجأ بأن ناظر مدرسته المهيب يهرع إلى ذات الشجرة ، ويتسلقها، جالساً على أحد فروعها إلى جواره طالباً النجاة من كلبة فاطمة ! يكثف عبدالغني كرم الله الحدث في هذه القصة ‘ ويشحن التفاصيل الدقيقة بدراما تجعل التوتر عالياً من أول سطر في القصة حتى نهايتها ، فكأنما أريد لسياق القصة أن يجئ ساخناً وسريعاً وغارقاً في الكوميديا . فالقصة تبدأ بالذروة – حيث ساق الحظ العاثر ناظر المدرسة المتجهم ، والصارم ليكون طريدة كلبة فاطمة..فيخلع بنهاية القصة خيلاءه الكاذبة ويعود إلى صورة الإنسان فيه ؛ وقد كان قبل ذلك التاريخ شخصاً من طين آخر طين لا يعرف النكتة والحنان ومسح رؤوس الأيتام ، طين لا يعرف الخوف. كانت حياته محسوبة ، عبارة عن معادلة رياضية ، أي تغير في طرف يخل بالطرف الآخر، خطواته ونظراته ، صورة صارمة وبغيضة يقشعر لها جلد وعيون وشنط وخطوات وكراسات الطلاب.) ص51 يعطي الإيقاع السريع هذه القصة نفثاً درامياً عالياً ،فالمسرح (ساحة السوق) وهو يكتظ بالجمهور متعدد السحنات والمهن والأغراض ، يجذبه العرض الفجائي الذي جاء على غير موعد أو إنذار. تطلق الكلبة نباحاً داوياً وسط السوق وقد اختارت فريستها على مرأى من هذا الحشد. ثم تبدأ الكوميديا، ينسى الناظر صرامته ووقاره المصطنع ويعطي قدميه للريح. (وكلما اقتربت الكلبة من رجليه نسي جزءاً من الوجود المحيط ، من الباعة والنساء والشماسة وأهل الحي) ص53. تزداد وتيرة الوصف وروعة السرد صعوداً مع الحدث ، حتى لنشعر في حالات أنّ تكثيف السرد والعناية بالتفاصيل المتتابعة إنما هو جزء من معركة الجري والملاحقة بين كلبة فاطمة وطريدتها ناظر المدرسة الذي يبحث عن طوق نجاة: (أما أهل السوق‘ فالجائع نسي جوعه ، والحرامي أجّل شغله ، والصعلوك همدت رغبته، فقد تأجل البيع والشراء حتى يتفرجوا عليه ، حتى ينسوا همومهم وغمومهم للحظة صغيرة .) ص53 حررت كلبة فاطمة الناظر من فظاظته وكبريائه الزائف ، وأعادت لساحة المدرسة ضحكات الأطفال ولعبهم دون حذر أو خوف: (لقد خرج من سجنه بسبب الكلبة العجفاء، جنود الله التي لا نراها . لقد غسلته من كل فهم أو عرف قديم صبغ به ، إنه ينظر للحياة نظرة طفل حديث في السبعين من عمره . أما أنا فقد صرت بطل الحكي بالمدرسة . أدركت بأن الناظر مجرد إنسان، يخاف ويحب وينام ، مثلي إن لم يكن أقل مني.) ص61
لعبة التجريب في العمل الإبداعي فضاء مفتوح ، يصعب السيطرة على مجاذيفه. وفي هذه المجموعة جنس إبداعي يستعير شيئاً من طبيعة السرد القصصي وتداعيات الخاطرة. وهو ما اصطلح بعض النقدة على تسميته أحياناً بالنص ، وهي تسمية كما نرى لا تفصح عن دلالة وطبيعة هذا اللون من الكتابة. وعلى سبيل المثال فإن المقطوعات التي حملت عناوين : "الدجاجة أقوى من الأسد" و"أجمل سباق" و"رقص على طبول النسيم" هي أقرب إلى الخواطر وتداعيات الكتابة في لحظة تحرر من قيود الشكل والنمط. إنها محاولات لسبر غور ما في النفس من أمور قد تكون الكتابة الحرة من كل شكل أحياناً أقرب إلى استيعابها، الشيء الذي يجعلها تتأرجح بين السرد القصصى والخاطرة الشخصية.
ألفت نظر الكاتب – في ختام هذه القراءة العابرة- إلى بعض المآخذ التي أحدثت بعض الدمل والخدش الطفيف في جسد هذا العمل الجيد بكل المقاييس. وظني أنّ هذه الكراسة لم تجد حظها من المراجعة الدقيقة قبل ابتعاثها إلى الناشر .أقول هذا دون قصد للحط من لغة أديبنا الشاب ، فالقصص في مجملها كتبت بلغة أنيقة ، وغاية في الفصاحة ..لكن ما أعنيه يقع تحت دائرة الإهمال أو الاستعجال ، ولم أر في تجربتي المتواضعة شيئا أكب المبدعين على وجوههم مثل الاستعجال والإهمال. وأحسب أنّ جانب القصور في هذا العمل الإبداعي – على قلته – جاء نتيجة التسرع والإهمال. وردت بعض العبارات الفطير –على ندرتها - من حيث الصياغة اللغوية . ترد في الصفحة 37 عبارة تقول : ( أي قسوة هذه تلك التي تواجه بها الحياة النفوس!) يمكن للقارئ العادي أن يلحظ ببساطة تكرار أسم الإشارة مما يخلق ركاكة في التعبير إذ يقول: (...هذه تلك التي تواجه..الخ....). أو أن يقول في ص52فاقشعر نظر الناظر..) ، والقشعريرة مقرونة في الغالب الأعم بالبدن. أو أن يقول في موضع آخر: (في ترديد أغان سمجة ظل يحرمها عن فتيات الحي) ص73 ..والصواب "يحرمها على" وليس عن. أو أن يهمل الصفة تماماً بدل أن يتبعها الموصوف كما ينبغي ، كأن يقول: (يجر عبئاً ثقيل...) إذ ليس من عذر يحذف بمقتضاه تنوين الفتح عن كلمة ثقيل..فالصحيح إيرادها : عبئاً ثقيلاً كما تقضي بذلك ضرورة اللغة.أتسقط كل هذه الهفوات لحرصي على موهبة كاتب أتوسم أن يردّ - هو وآخرون خرجوا من صلب زمن الخيبة والإحباط الماثل - أن يردوا إلى دفتر الإبداع السوداني بعض العافية.
فضيلي جمّاع لندن

هناك تعليق واحد: